لايسعك الا ان تقف وانت تتابع تفاعلات الفكر البشري في زماننا هذا على احداث تصفية صحفيي شارلي ايبدو الفرنسيه مؤخرا .. ففي صباح ذلك اليوم الشتوي البارد اضاف شابان مهاجران فصلا جديدا في صراع العقل البشري "ضد نفسه" والذي يتكرر منذ قرون طويله .. هذا الصراع الذي ينشأ ويتطور في كل مره متبعا "خوارزميه" ثابته ما فتئت تعيد نفسها .. ابتداء بمحاولتك "اقناع" الفرد الاخر بفكرتك .. مرورا بمحاولتك "اقصاء" تلك "الفكره" الاخري .. وانتهاء "باقصائك الفرد الاخر" نفسه .. يحدث ذلك عندما تصل الى "درك" ان انتصارك لفكرتك يتطلب -وفقط يتطلب-اسكاتك للافكار الاخرى للابد.
في هذا الفصل الجديد من الحكايه نجد انفسنا -باختصار- امام وجهتي نظر -بشريتين- اختلفتا حد التصفيه الجسديه:
وجهة النظر الاولى تمثل -مجتمعا اوروبيا- يري ان من "حق" اي فرد ان يؤمن او لا يؤمن بأي "شيئ" كان .. متى ما شاء ذلك وأينما كان .. وبالتالي ان كان له ذلك الحق- حق "ألا يؤمن"- فمن باب اولى ان يكون له حق ابداء رأيه السلبي/الايجابي في ما يؤمن/لايؤمن به بكل وضوح .. هذا الجيل الاوروبي في الغالب قرأ كثيرا عن صراعات رواد عصر النهضه الاوروبي مع الثيولوجي المسيحي في القرون الوسطى .. تلك الصراعات التي كانت تنتهي بمحاكمات اعداميه للمنتقدين لجوهر الافكار المسيحيه .. اصحاب هذا الرأي يؤمنون بحرية الانسان المطلقه في التعبير "السلمي" .. شعورهم بأن حريتهم هذه منتقصه بسبب معتقدات تعتقدها "شعوب اخرى" يعتبرونها قادمه لتوها من دفاتر التاريخ ..و يرونها تتذيل بقية الشعوب في مقاييس التحضر يصيبهم بالحنق الشديد ولا شك. هذا الاستفزاز يدفعهم الى الاصرار الشديد على ممارسة "حقهم المسلوب" هذا علنا .. والتمادي فيه حتى وان كان شكل الممارسه هذا -موضوعيا- ليس ذا فائده كبيره .. فوجود "كنيسه جديده" اخرى بعد مئات السنين امر غير مقبول اطلاقا بطبيعة الحال .. لذا تجدهم متحمسين للغايه لممارسة حقهم هذا والتأكيد عليه.. تماما كما فعل اسلافهم مع سطوة الكنيسه على التعبير سابقا.
اما وجهة النظر الاخرى فهي تتكون من جزئيتين:
الجزئيه الاولى تمثل مجتمعا يرى ان افكاره "لاتخصه وحده" .. بل "تتعداه" لتشمل الاخرين حتى وان كانوا "غير" مؤمنين بها .. فهم يرون ان "التأدب" والتعاليم التي "يلتزم" بها الفرد المسلم -مثلا- تجاه "بعض" الامور ينبغي ان "يلتزم" بها الاخرون ايضا -وبنفس القدر- حتى وان كان هؤلاء الاخرين لا يعترفون بفكرة هذا الدين نفسه .. اي ان الفكره المعينه ان كانت مقدسه عند "فئه معينه" .. ينبغي ان تكون مقدسه عند "الجميع" .. وذلك بغض النظر عن "موقفك" الايماني-القداسي- منها.
والجزئيه الثانيه تمثل تيارا يرى نفسه "مالكا" للفكره .. يرى نفسه والفكره "متحدين" في كيان واحد .. هو والفكره جسد واحد .. اذا هوجمت الفكره هوجم في شخصه .. وان أسيئ لشخصه أسيئ للفكره .. ولهذا تجده متعصبا لا يقبل الطعن في فكرته .. فالتمثيل بفكرته يعتبره تمثيلا بشخصه .. فيكون رد فعله مبنيا على ذلك.
لذا فان "شارلي ايبدو" كانت "متوقعه الحدوث" .. و في رأيي الشخصي لا يزال الباب مفتوحا لحوادث اخرى مشابهه لها ..فالافكار هي نفس الافكار .. كما لا يزال الباب مفتوحا ايضا لردود افعال "عنيفه" متوقعه من الجانب الاخر المعتدى عليه .. فنحن حقيقة امام "عالمين مختلفين" تماما .. وضعتهما التكنولوجيا وجها لوجه لاول مره في التاريخ .. فهل سيحسم منطق القوه صراع الافكار هذا في نهاية الامر؟؟
إرسال تعليق