أفردت مجلة الدوحة ملفاً كاملاً عن الشاعر السوداني محمد مفتاح الفيتوري في العدد 84 اكتوبر 2014 ننقل بعضه على صفحات (عين السودان) شاكرين لمجلة الدوحة احتفاءها بشاعر افريقيا
د. محمد الشحات / ناقد وأكاديمي مصري
- 1 -
لم يستطع محمد مفتاح الفيتوري (1936 - ) أن يجعل من مقولة «الحب» جوهراً شعرياً أو مركزاً تتمحور حوله رؤاه وبلاغته الثرّة، كما كان يفعل نزار قباني مثلاً، ولا أن يصنع من تراكيب معجمه الشعري واستعاراته رصاصاتٍ مجازيّةً وأسلحةً فتّاكةً موجهةً إلى صدر العدو المحتلّ، كما كان يفعل محمود درويش أو سميح القاسم، أو غيرهما من شعراء المقاومة. لم يُرِدْ الفيتوري أن يعيد، شعرياً، إنتاج صورة مصطفى سعيد بطل (موسم الهجرة إلى الشمال) بوصفها أيقونة سردية وثقافية استطاع من خلالها رفيقه السوداني الطيّب صالح (1929 - 2009) أن يفكّك بنية المجتمع الإنجليزي، الكولونيالي، عبر تمثيلاته الجنسية واستعاراته الإفريقية، التي كانت تخرج من رحم الأرض المثقلة بالأنين والفقر والطموح الجارف كالشلّال الهادر. وعلى الرغم من كل هذا تظل قصيدة الفيتوري مشدودةً بحبل متين إلى جماليات الحياة اليومية، ومترعةً برائحة الأرض والطين والبشر المهمّشين والمطحونين والمقموعين والبسطاء والثوّار والمتمرّدين، كأنه نموذج شعري يقف على الحافة بين جماليتين أو بلاغتين: قصيدة الفصحى، الرسمية، السلطوية، الفوقية، النخبوية، التي كان أنموذجها متمثلاً في نازك الملائكة (1923 - 2007) وعبد الوهاب البياتي (1926 - 1999) وبدر شاكر السياب (1926 - 1964)، ثم لحق بهم محمود درويش (1941 - 2008) وسميح القاسم (1939 - 2014) ونزار قباني (1923 - 1998) وأدونيس (1930) وصلاح عبد الصبور (1931 - 1981) وأمل دنقل (1940 - 1983)، وغيرهم من أساطين القصيدة الفصيحة، في مقابل بلاغة القصيدة العامية، الشعبية، التحتية، ممثَّلة في بيرم التونسي (1893 - 1961) وفؤّاد حدّاد(1928 - ) وصلاح جاهين (1930 - 1986) وعبد الرحمن الأبنودي (1939 - )، وغيرهم. من هنا، يمكن القول إن قصيدة الفيتوري قصيدة مخضرمة؛ بمعنى أنها عاصرت أكثر من جيل شعري، فضلاً عن كونها قد راهنت، أو قامرت بالأساس، على الجمع بين طبقتين بالمصطلح السوسيولوجي، أو مقامين بالمصطلح الموسيقي، في مزيج كيميائي واحد معجون بنبرة مشبعة بالهمّ العربي والإنساني العام، دون أن تُغفِل، ولو للحظة، غائية انتماء صاحبها إلى القارة السوداء التي انتمى إليها فكرياً مفكّر كبير بحجم فرانز فانون، أو عضوياً الكثير من الكتّاب من أمثال نجوجي وا ثيونجو وشينوا أتشيبي،.. وآخرين.
يعدّ فانون F. FANON واحداً من أبرز من كتبوا عن مناهضة الآخر (المُستعمِر) في القرن العشرين، جنباً إلى جنب ألبرت ميمي ALBERT MIMI وإدوارد سعيد E. W. SAID وهومي بابا HOMI BHABHA وغيرهم، بحيث ألهمت كتاباته ومواقفه الكثير من حركات التحرّر في العالم خلال القرن الفائت، وهو الأمر الذي دفع الكثيرين إلى وصفه بصفات عدّة؛ من بينها «شاعر العالم» و«نبيّ العنف» و«مسيح الثقافات المقهورة»، وغير ذلك، كما قال عنه صبحي حديدي. وليس فانون بعيداً كثيراً عن الفيتوري الذي وصفه عبده وازن بأنه «شاعر التخوم». فإذا كان فانون شبيهاً بإيميه سيزار في كونهما فرنسيين من جزر المارتينيك، ومدافِعَيْن عن حركات التحرر في العالم آنذاك، من ناحية، فإن وجه الشبه بين الفيتوري وفانون يكمن في إدراكهما الحادّ وتعريتهما خطورة الدور الذي مارسه الرجل الأبيض طويلاً ضد إفريقيا السوداء.
- 2 -
تـــنــوّعت التـجـــربة الشـعــريـة للفيتوري تنوّعاً لافتاً للنظر، لا على المستوى الكمّي فحسب؛ إذ هو شاعر مخضرم عاصر أجيالاً شعرية متنوعة ما بين قصيدة التفعيلة والشعر الحر وقصيدة النثر، بل على المستوى النّوعي أيضاً، حيث استطاعت قصيدته أن تخلق لنفسها مساراً خاصاً، جمعت فيه بين طاقة التفعيلة وبراءة الشعر الحر وتمرّد القصيدة النثرية. وهذا أمر واضح للعيان في تنوّع دواوينه التي بدأت من «أغاني إفريقيا (صدر في عام 1955)، «عاشق من إفريقيا» (1964)، «اذكريني يا إفريقيا» (1965)، «أحزان إفريقيا» (1966)، «البطل والثورة والمشنقة» (1968)، مروراً بتحولات شعرية وجمالية تجسّدت في «سقوط دبشليم» (1969)، «معزوقة إلى درويش متجوّل» (1971)، «ثورة عمر المختار «(1973)، «ابتسمي حتى تمر الخيل» (1975)، «عصفورة الدم» (1983)، «شرق الشمس، غرب القمر» (1985)، «يأتي العاشقون إليك» (1989)، «قوس الليل، قوس النهار» (1994)، وانتهاء بـ«عرياناً يرقص في الشمس» (2005)، فضلاً عن بعض المسرحيات الشعرية الأخرى، مثل «سولارا» (1970)، «يوسف بن تاشفين» (1997)، «الشاعر واللعبة» (1997).
والواقع أن قصيدة الفيتوري، في أغلب منعطفاتها الجمالية، لم تتنازل عن إيقاعها الصوتي والجمالي يوماً ما، كما أنها لم تسقط في أحضان بلاغة شكلية، أو معاضلة جمالية، أو رمزية مركّبة داعبت الكثيرين من أرباب الحداثة التي تنطوي قصائدهم على رمزية الرؤية/ الرؤيا في المقام الأول، كما كان أدونيس يفعل في بداياته على سبيل المثال لا الحصر.
لم تنشغل قصيدة الفيتوري كثيراً بثيمة الحب، ولم يقف طويلاً عند المرأة جسداً أو عاطفةً مشبوبةً، مثلما فعل نزار مثلاً، اللهمّ إلا وقوفه عندها بوصفها امرأة من لحم ودم وجسد مُثْخَن بطعنات القهر المتراكم في طبقات بعضها فوق بعض، فضلاً عن سعيه الحثيث، المتواتر، إلى تكبير صورة المرأة لتصبح موازياً رمزياً لصورة الوطن السليب، كما في قصيدة «الليل والحديقة المهجورة»:
«الليل/ ليل العبيد المتوّجين.. العرايا/ القابعين تماثيل/ فوق أرض الخطايا/ الآثمين.. النبيين../ القاتلين.. الضحايا/ مثلي.. ومثلك/ نحن المسوخ../ نحن السبايا..».
تنزع قصيدة الفيتوري كثيراً إلى تعدّد الأصوات، كأنها قصيدة بوليفونية POLYPHONIC، وهذا عنصر أصيل من عناصر دراميّتها؛ إذ تشتغل على رسم ملامح الإنسان في علاقته الرباعية بالزمان والمكان والحدث والصراع. عندئذ، تتفجَّر الحالة الدرامية ويتخلّق صراع درامي بين الأصوات والضمائر والصور في فضاء القصيدة الواحدة. فقصيدته قصيدة درامية، تشتغل على مبدأ تحويل الصورة الشعرية إلى صورة بصرية، ذات أحداث متراكمة، وهو أمر واضح الدلالة حتى فيما كتبه من نصوص مسرحية. وهنا، يمكن الاستشهاد بقصيدة «معزوفة إلى درويش متجول» التي تشبه حواريةً صوتيةً من ناحية، وتتناغم أو تتناصّ بوضوح، وزناً ولحناً موسيقياً، وشكّاً فلسفياً، مع (مأساة الحلاج) لصلاح عبد الصبور من ناحية أخرى:
«دنيا لا يملكها من يملكها/ أغنى أهليها سادتها الفقراء/ الخاسر من لم يأخذ .. ما تعطيه على استحياء/ والغافل من ظنّ أن الأشياء هي الأشياء/ تاج السلطان الغاشم تفاحة/ تتأرجح أعلى سارية الساحة/ ... والراحة ليست هاتيك الراحة/ عن أيّ بحار العالم تسألني يا محبوبي؟/ عن صوتٍ قدماه من صخر وعيناه من ياقوت؟/ عن سحب من نيران؟/ وجزائر من مرجان؟/ عن ميْتٍ يحمل جثته ويهرول حيث يموت؟/ لا تعجب يا ياقوت/ الأعظم من قدر الإنسان هو الإنسان..».
- 3 -
تنطوي شعرية الفيتوري على تضافر عدد كبير من الثيمات الإفريقية؛ أقصد إلى تجسيد هموم القارة السوداء شعرياً، والدفاع عن قضاياها التاريخية جمالياً؛ الأمر الذي يجسّد مأساة الإنسان الأسود في مسيرته الكبرى لمقاومة المُستعمِر الأبيض الذي احتلّ إفريقيا، كأنه يستدعي فانون وألبرت ميمي وجدل المُستعمِر والمُستعمَر، حيث يقول مثلاً في قصيدة «حدث في أرضٍ»:
«أنا لا أملك شيئاً غير إيماني بشعبي/ وبتاريخ بلادي/ وبلادي أرض إفريقيا البعيدة/ هذه الأرض التي أحملها ملء دمائي/ والتي أنشقها ملء الهواء/ والتي أعبدها في كبرياء/ هذه الأرض التي يعتنق العطر عليها والخمول/ والخرافات وأعشاب الحقول/ هذه الأسطورة الكبرى.. بلادي».
في قصائد الفيتوري ملامح ومفردات عالم إفريقي مكتمل القسمات، غنيّ بالتفاصيل، على طريقة الديكور والسينوغرافيا المسرحية. ففي قصائده راياتٌ كرايات الحروب، وطبول لا تكفّ عن الدقّ في مواسم البهجة أو الحصاد أو النذير بحروب مشؤومة، ورقص مفعم بروح الأفارقة المخلصين التوَّاقين إلى الحياة البرّية، وإيقاع متجاوب صعوداً وهبوطاً مع نوائب الدهر وتحولات الزمان والمكان والقدَر، وألوان شتّى تمتاح من خصوبة الأرض والزرع والدماء والكرنفال، وكثير من مفردات الصورة الإفريقية المشبعة بعرق الجسد الأسود ورائحة البخور. يقول مثلاً في قصيدة «من أغاني إفريقيا» الشهيرة:
«يا أخي في الشرق في كل سكن/ يا أخي في الأرض في كل وطن/ أنا أدعوك.. فهل تعرفني؟ ...».
لكنّه في سياق آخر يستدعي لومومبا، بوصفه أيقونةً دالّةً على تحرّر الكونغو من براثن المُستعمِر، كما يستدعي المتنبّي وآخرين في مدوّنته الشعرية العريضة، لا استدعاء الحنين المنكسر، بل استدعاء المُترقّب للنصر، المُتشبِّث بالخيط الأبيض في آخر النفق. يقول في قصيدة «عصر الميلاد»:
«يا لومومبا../ في قلبي أنت/ البطل الأسود ذو القدمين العاريتين/ الراكضتين على نهر الكونغو/ كانت تركض خلفهما أشجار الغابات/ كانت تتهدّج لهما أنفاس الظلمات/ كانت أمواج الكونغو../ توغل في الركض/ كان الفارس ذو الرهبة/ ذو الصوت الفضي/ عيناه عالقتان على نجمة/ شفتاه مطبقتان على كلمة/ كانت أصوات المضطهدين/ تجلجل في روح الأرض/ يا لومومبا../ إن الخونة لا ينتصرون/ لا يصبح بطلاً من خان قضية شعبه/ من أسقط رايته يوم نضاله/ من سدَّ عليه طريق الحرية/ من قبَّل أقدام القتلة/ أبداً.. أبداً يا لومومبا».
لذا، لا يبدو غريباً، في هذا السياق، احتفاء الفيتوري بالزنوجة التي هي قدر الإنسان الإفريقي المرتبط بالأرض المُستلَبَة منذ فجر التاريخ، الباحث عن الحق والخير والجمال، التوّاق إلى غد مشرق، لا سلطان فيه لأحد سوى سلطان الحرية وميزان العدل:
«أنا زنجي/ قلها لا تجبن.. لا تجبن!/ قلها في وجه البشرية../ أنا زنجي../ وأبي زنجي الجد/ وأمي زنجية../ أنا أسود../ أسود لكني حرّ أمتلك الحرية/ أرضي إفريقيا../ عاشت أرضي../ عاشت إفريقيا../ أرضي.. والأبيض دنّسها/ دنّسها المحتل العادي../ فلأمضِ شهيداً../ وليمضوا مثلي شهداء أولادي/ فوراء الموت.. وراء الأرض/ تدوي صرخة أجدادي../ لستم ببنينا إن لم تَذْرِ الريحُ رمادَ الجلاد.
- 4 -
ينتمي الفيتوري إلى جيل محيي الدين فارس وأحمد صالح إبراهيم وغيرهما من شعراء وكتاب السودان الذين تفتّح وعيهم على الحرب العالمية الثانية، وما تلاها من تحوّلات سياسية وأيديولوجية. ومن ثَمّ فقد أسّسوا جميعاً لتدشين جماليات القصيدة الحديثة في السودان، متأثّرين بشكل أو بآخر بالقصيدة المصرية والعراقية واللبنانية، ومستلهِمين النماذج الكبرى التي كانت ملء السمع والبصر آنذاك، من أمثال نازك الملائكة والسياب والبياتي وبلند الحيدري،.. وغيرهم، لا على سبيل المحاكاة الشعرية فحسب، بل على سبيل المعارضة والمغايرة. قضى الفيتوري شطراً طويلاً من حياته في القاهرة، فاعلاً في المشهد الإبداعي المصري، إلى الدرجة التي كنّا - ونحن في المرحلة الإعدادية في أواخر السبعينيات - ندرس قصائده؛ تحديداً قصيدتي «من أغاني إفريقيا» و«أصبح الصبح»، دون أن نلتفت مُطلقاً إلى كونه شاعراً سودانياً في الأصل. كم كنّا نظنّه مصرياً خالصاً آنذاك! ولعل هذا راجع إلى مفردات صورته الشعرية التي كانت تمتاح من بيئة وروح مصريتين، يحتلّ نهر النيل فيها والثقافة الفرعونية مركزاً دلالياً بارزاً. وهو أمر يمكن تلمسّه في عدد غير قليل من القصائد؛ منها قصيدته «التراب المقدّس» التي يقول فيها:
«وسِّدْ الآن رأسك/ فوق التراب المقدّس/ واركع طويلاً لدى حافة النهر/ ثمة من سكنت روحه شجر النيل/ أو دخلت في الدّجى الأبنوسي/ أو خبّأت ذاتها في نقوش التضاريس/ ثمة من لامست شفتاه/ القرابين قبلك/ مملكة الزرقة الوثنية قبلك/ عاصفة اللحظات البطيئة قبلك..».
هكذا، تبدو استعارة النّيل، لدى الفيتوري، استعارةّ أثيرة، غير أنه يتسامى بها فوق جغرافيتها المحدودة التي قد تصلها بمصر أو السودان فحسب؛ ليجعل منها استعارة تمثيلية كبرى تمتدّ من المنبع حتى المصبّ، مروراً ببلدان وحضارات شتّى.
- 5 -
يستطيع القارئ الجيّد لمدونة الفيتوري الشعرية أن يلمح مدى قدرته على متابعة أغلب التحوّلات السياسية والاجتماعية التي مرت بها المنطقة العربية وإفريقيا، منذ تفاعله مع ثورة عرابي 1881م، وحادثة دنشواي 1906م، (كما في قصائد «عندما يتكلم شعب» و«النهر الظامئ» و«إلى مومياء»)، مروراً برصده الجمالي لأحداث القضيية الفلسطينية في بعض القصائد مثل «طفل الحجارة» وغيرها، والمسألة العراقية في قصيدة جميلة ذات نفس ملحمي بعنوان «يأتي العاشقون إليك يا بغداد»، يقول فيها:
«لم يتركوا لك ما تقول/ والشعر صوتك/ حين يغدو الصمت مائدة../ وتنسكب المجاعة في العقول/ لم يعرفوك، وأنت توغل عارياً في الكون../ إلا من بنفسجة الذبول/ لم يبصروا عينيك../ كيف تقلّبان تراب أزمنة الخمول/ لم يسكنوا شفتيك../ ساعة تطبقان على ارتجافات الذهول/ لم يشهدوك../ وأنت تولد مثل عشب الأرض/ في وجع الفصول/ لم يتركوا لك ما تقول/ لم يتركوا لك ما تقول ...».
تنهض شعرية الفيتوري وطاقته الإبداعية على محورين؛ أولهما قدرته على نسج مجازات مُدهشة تتخلّق عند التّخوم، كأنه واحد من شعراء المنفَى؛ نظراً لارتحاله الدائم بين السودان ومصر ولبنان وليبيا، حتى استقرّ به المقام أخيراً في المغرب، فضلاً عمّا ينطوي عليه الفنّان من غربة وجودية، وثانيهما خروج استعاراته من رحم مناخ إفريقي مُفعم بمفردات البكارة والبريّة والدماء الحارة وإرث أسود مثقل بالعبودية، وكل ما من شأنه إنضاج قصيدة حارة الطعم، سوداء اللون، فوّاحة الرائحة.
د. محمد الشحات / ناقد وأكاديمي مصري
- 1 -
لم يستطع محمد مفتاح الفيتوري (1936 - ) أن يجعل من مقولة «الحب» جوهراً شعرياً أو مركزاً تتمحور حوله رؤاه وبلاغته الثرّة، كما كان يفعل نزار قباني مثلاً، ولا أن يصنع من تراكيب معجمه الشعري واستعاراته رصاصاتٍ مجازيّةً وأسلحةً فتّاكةً موجهةً إلى صدر العدو المحتلّ، كما كان يفعل محمود درويش أو سميح القاسم، أو غيرهما من شعراء المقاومة. لم يُرِدْ الفيتوري أن يعيد، شعرياً، إنتاج صورة مصطفى سعيد بطل (موسم الهجرة إلى الشمال) بوصفها أيقونة سردية وثقافية استطاع من خلالها رفيقه السوداني الطيّب صالح (1929 - 2009) أن يفكّك بنية المجتمع الإنجليزي، الكولونيالي، عبر تمثيلاته الجنسية واستعاراته الإفريقية، التي كانت تخرج من رحم الأرض المثقلة بالأنين والفقر والطموح الجارف كالشلّال الهادر. وعلى الرغم من كل هذا تظل قصيدة الفيتوري مشدودةً بحبل متين إلى جماليات الحياة اليومية، ومترعةً برائحة الأرض والطين والبشر المهمّشين والمطحونين والمقموعين والبسطاء والثوّار والمتمرّدين، كأنه نموذج شعري يقف على الحافة بين جماليتين أو بلاغتين: قصيدة الفصحى، الرسمية، السلطوية، الفوقية، النخبوية، التي كان أنموذجها متمثلاً في نازك الملائكة (1923 - 2007) وعبد الوهاب البياتي (1926 - 1999) وبدر شاكر السياب (1926 - 1964)، ثم لحق بهم محمود درويش (1941 - 2008) وسميح القاسم (1939 - 2014) ونزار قباني (1923 - 1998) وأدونيس (1930) وصلاح عبد الصبور (1931 - 1981) وأمل دنقل (1940 - 1983)، وغيرهم من أساطين القصيدة الفصيحة، في مقابل بلاغة القصيدة العامية، الشعبية، التحتية، ممثَّلة في بيرم التونسي (1893 - 1961) وفؤّاد حدّاد(1928 - ) وصلاح جاهين (1930 - 1986) وعبد الرحمن الأبنودي (1939 - )، وغيرهم. من هنا، يمكن القول إن قصيدة الفيتوري قصيدة مخضرمة؛ بمعنى أنها عاصرت أكثر من جيل شعري، فضلاً عن كونها قد راهنت، أو قامرت بالأساس، على الجمع بين طبقتين بالمصطلح السوسيولوجي، أو مقامين بالمصطلح الموسيقي، في مزيج كيميائي واحد معجون بنبرة مشبعة بالهمّ العربي والإنساني العام، دون أن تُغفِل، ولو للحظة، غائية انتماء صاحبها إلى القارة السوداء التي انتمى إليها فكرياً مفكّر كبير بحجم فرانز فانون، أو عضوياً الكثير من الكتّاب من أمثال نجوجي وا ثيونجو وشينوا أتشيبي،.. وآخرين.
يعدّ فانون F. FANON واحداً من أبرز من كتبوا عن مناهضة الآخر (المُستعمِر) في القرن العشرين، جنباً إلى جنب ألبرت ميمي ALBERT MIMI وإدوارد سعيد E. W. SAID وهومي بابا HOMI BHABHA وغيرهم، بحيث ألهمت كتاباته ومواقفه الكثير من حركات التحرّر في العالم خلال القرن الفائت، وهو الأمر الذي دفع الكثيرين إلى وصفه بصفات عدّة؛ من بينها «شاعر العالم» و«نبيّ العنف» و«مسيح الثقافات المقهورة»، وغير ذلك، كما قال عنه صبحي حديدي. وليس فانون بعيداً كثيراً عن الفيتوري الذي وصفه عبده وازن بأنه «شاعر التخوم». فإذا كان فانون شبيهاً بإيميه سيزار في كونهما فرنسيين من جزر المارتينيك، ومدافِعَيْن عن حركات التحرر في العالم آنذاك، من ناحية، فإن وجه الشبه بين الفيتوري وفانون يكمن في إدراكهما الحادّ وتعريتهما خطورة الدور الذي مارسه الرجل الأبيض طويلاً ضد إفريقيا السوداء.
- 2 -
تـــنــوّعت التـجـــربة الشـعــريـة للفيتوري تنوّعاً لافتاً للنظر، لا على المستوى الكمّي فحسب؛ إذ هو شاعر مخضرم عاصر أجيالاً شعرية متنوعة ما بين قصيدة التفعيلة والشعر الحر وقصيدة النثر، بل على المستوى النّوعي أيضاً، حيث استطاعت قصيدته أن تخلق لنفسها مساراً خاصاً، جمعت فيه بين طاقة التفعيلة وبراءة الشعر الحر وتمرّد القصيدة النثرية. وهذا أمر واضح للعيان في تنوّع دواوينه التي بدأت من «أغاني إفريقيا (صدر في عام 1955)، «عاشق من إفريقيا» (1964)، «اذكريني يا إفريقيا» (1965)، «أحزان إفريقيا» (1966)، «البطل والثورة والمشنقة» (1968)، مروراً بتحولات شعرية وجمالية تجسّدت في «سقوط دبشليم» (1969)، «معزوقة إلى درويش متجوّل» (1971)، «ثورة عمر المختار «(1973)، «ابتسمي حتى تمر الخيل» (1975)، «عصفورة الدم» (1983)، «شرق الشمس، غرب القمر» (1985)، «يأتي العاشقون إليك» (1989)، «قوس الليل، قوس النهار» (1994)، وانتهاء بـ«عرياناً يرقص في الشمس» (2005)، فضلاً عن بعض المسرحيات الشعرية الأخرى، مثل «سولارا» (1970)، «يوسف بن تاشفين» (1997)، «الشاعر واللعبة» (1997).
والواقع أن قصيدة الفيتوري، في أغلب منعطفاتها الجمالية، لم تتنازل عن إيقاعها الصوتي والجمالي يوماً ما، كما أنها لم تسقط في أحضان بلاغة شكلية، أو معاضلة جمالية، أو رمزية مركّبة داعبت الكثيرين من أرباب الحداثة التي تنطوي قصائدهم على رمزية الرؤية/ الرؤيا في المقام الأول، كما كان أدونيس يفعل في بداياته على سبيل المثال لا الحصر.
لم تنشغل قصيدة الفيتوري كثيراً بثيمة الحب، ولم يقف طويلاً عند المرأة جسداً أو عاطفةً مشبوبةً، مثلما فعل نزار مثلاً، اللهمّ إلا وقوفه عندها بوصفها امرأة من لحم ودم وجسد مُثْخَن بطعنات القهر المتراكم في طبقات بعضها فوق بعض، فضلاً عن سعيه الحثيث، المتواتر، إلى تكبير صورة المرأة لتصبح موازياً رمزياً لصورة الوطن السليب، كما في قصيدة «الليل والحديقة المهجورة»:
«الليل/ ليل العبيد المتوّجين.. العرايا/ القابعين تماثيل/ فوق أرض الخطايا/ الآثمين.. النبيين../ القاتلين.. الضحايا/ مثلي.. ومثلك/ نحن المسوخ../ نحن السبايا..».
تنزع قصيدة الفيتوري كثيراً إلى تعدّد الأصوات، كأنها قصيدة بوليفونية POLYPHONIC، وهذا عنصر أصيل من عناصر دراميّتها؛ إذ تشتغل على رسم ملامح الإنسان في علاقته الرباعية بالزمان والمكان والحدث والصراع. عندئذ، تتفجَّر الحالة الدرامية ويتخلّق صراع درامي بين الأصوات والضمائر والصور في فضاء القصيدة الواحدة. فقصيدته قصيدة درامية، تشتغل على مبدأ تحويل الصورة الشعرية إلى صورة بصرية، ذات أحداث متراكمة، وهو أمر واضح الدلالة حتى فيما كتبه من نصوص مسرحية. وهنا، يمكن الاستشهاد بقصيدة «معزوفة إلى درويش متجول» التي تشبه حواريةً صوتيةً من ناحية، وتتناغم أو تتناصّ بوضوح، وزناً ولحناً موسيقياً، وشكّاً فلسفياً، مع (مأساة الحلاج) لصلاح عبد الصبور من ناحية أخرى:
«دنيا لا يملكها من يملكها/ أغنى أهليها سادتها الفقراء/ الخاسر من لم يأخذ .. ما تعطيه على استحياء/ والغافل من ظنّ أن الأشياء هي الأشياء/ تاج السلطان الغاشم تفاحة/ تتأرجح أعلى سارية الساحة/ ... والراحة ليست هاتيك الراحة/ عن أيّ بحار العالم تسألني يا محبوبي؟/ عن صوتٍ قدماه من صخر وعيناه من ياقوت؟/ عن سحب من نيران؟/ وجزائر من مرجان؟/ عن ميْتٍ يحمل جثته ويهرول حيث يموت؟/ لا تعجب يا ياقوت/ الأعظم من قدر الإنسان هو الإنسان..».
- 3 -
تنطوي شعرية الفيتوري على تضافر عدد كبير من الثيمات الإفريقية؛ أقصد إلى تجسيد هموم القارة السوداء شعرياً، والدفاع عن قضاياها التاريخية جمالياً؛ الأمر الذي يجسّد مأساة الإنسان الأسود في مسيرته الكبرى لمقاومة المُستعمِر الأبيض الذي احتلّ إفريقيا، كأنه يستدعي فانون وألبرت ميمي وجدل المُستعمِر والمُستعمَر، حيث يقول مثلاً في قصيدة «حدث في أرضٍ»:
«أنا لا أملك شيئاً غير إيماني بشعبي/ وبتاريخ بلادي/ وبلادي أرض إفريقيا البعيدة/ هذه الأرض التي أحملها ملء دمائي/ والتي أنشقها ملء الهواء/ والتي أعبدها في كبرياء/ هذه الأرض التي يعتنق العطر عليها والخمول/ والخرافات وأعشاب الحقول/ هذه الأسطورة الكبرى.. بلادي».
في قصائد الفيتوري ملامح ومفردات عالم إفريقي مكتمل القسمات، غنيّ بالتفاصيل، على طريقة الديكور والسينوغرافيا المسرحية. ففي قصائده راياتٌ كرايات الحروب، وطبول لا تكفّ عن الدقّ في مواسم البهجة أو الحصاد أو النذير بحروب مشؤومة، ورقص مفعم بروح الأفارقة المخلصين التوَّاقين إلى الحياة البرّية، وإيقاع متجاوب صعوداً وهبوطاً مع نوائب الدهر وتحولات الزمان والمكان والقدَر، وألوان شتّى تمتاح من خصوبة الأرض والزرع والدماء والكرنفال، وكثير من مفردات الصورة الإفريقية المشبعة بعرق الجسد الأسود ورائحة البخور. يقول مثلاً في قصيدة «من أغاني إفريقيا» الشهيرة:
«يا أخي في الشرق في كل سكن/ يا أخي في الأرض في كل وطن/ أنا أدعوك.. فهل تعرفني؟ ...».
لكنّه في سياق آخر يستدعي لومومبا، بوصفه أيقونةً دالّةً على تحرّر الكونغو من براثن المُستعمِر، كما يستدعي المتنبّي وآخرين في مدوّنته الشعرية العريضة، لا استدعاء الحنين المنكسر، بل استدعاء المُترقّب للنصر، المُتشبِّث بالخيط الأبيض في آخر النفق. يقول في قصيدة «عصر الميلاد»:
«يا لومومبا../ في قلبي أنت/ البطل الأسود ذو القدمين العاريتين/ الراكضتين على نهر الكونغو/ كانت تركض خلفهما أشجار الغابات/ كانت تتهدّج لهما أنفاس الظلمات/ كانت أمواج الكونغو../ توغل في الركض/ كان الفارس ذو الرهبة/ ذو الصوت الفضي/ عيناه عالقتان على نجمة/ شفتاه مطبقتان على كلمة/ كانت أصوات المضطهدين/ تجلجل في روح الأرض/ يا لومومبا../ إن الخونة لا ينتصرون/ لا يصبح بطلاً من خان قضية شعبه/ من أسقط رايته يوم نضاله/ من سدَّ عليه طريق الحرية/ من قبَّل أقدام القتلة/ أبداً.. أبداً يا لومومبا».
لذا، لا يبدو غريباً، في هذا السياق، احتفاء الفيتوري بالزنوجة التي هي قدر الإنسان الإفريقي المرتبط بالأرض المُستلَبَة منذ فجر التاريخ، الباحث عن الحق والخير والجمال، التوّاق إلى غد مشرق، لا سلطان فيه لأحد سوى سلطان الحرية وميزان العدل:
«أنا زنجي/ قلها لا تجبن.. لا تجبن!/ قلها في وجه البشرية../ أنا زنجي../ وأبي زنجي الجد/ وأمي زنجية../ أنا أسود../ أسود لكني حرّ أمتلك الحرية/ أرضي إفريقيا../ عاشت أرضي../ عاشت إفريقيا../ أرضي.. والأبيض دنّسها/ دنّسها المحتل العادي../ فلأمضِ شهيداً../ وليمضوا مثلي شهداء أولادي/ فوراء الموت.. وراء الأرض/ تدوي صرخة أجدادي../ لستم ببنينا إن لم تَذْرِ الريحُ رمادَ الجلاد.
- 4 -
ينتمي الفيتوري إلى جيل محيي الدين فارس وأحمد صالح إبراهيم وغيرهما من شعراء وكتاب السودان الذين تفتّح وعيهم على الحرب العالمية الثانية، وما تلاها من تحوّلات سياسية وأيديولوجية. ومن ثَمّ فقد أسّسوا جميعاً لتدشين جماليات القصيدة الحديثة في السودان، متأثّرين بشكل أو بآخر بالقصيدة المصرية والعراقية واللبنانية، ومستلهِمين النماذج الكبرى التي كانت ملء السمع والبصر آنذاك، من أمثال نازك الملائكة والسياب والبياتي وبلند الحيدري،.. وغيرهم، لا على سبيل المحاكاة الشعرية فحسب، بل على سبيل المعارضة والمغايرة. قضى الفيتوري شطراً طويلاً من حياته في القاهرة، فاعلاً في المشهد الإبداعي المصري، إلى الدرجة التي كنّا - ونحن في المرحلة الإعدادية في أواخر السبعينيات - ندرس قصائده؛ تحديداً قصيدتي «من أغاني إفريقيا» و«أصبح الصبح»، دون أن نلتفت مُطلقاً إلى كونه شاعراً سودانياً في الأصل. كم كنّا نظنّه مصرياً خالصاً آنذاك! ولعل هذا راجع إلى مفردات صورته الشعرية التي كانت تمتاح من بيئة وروح مصريتين، يحتلّ نهر النيل فيها والثقافة الفرعونية مركزاً دلالياً بارزاً. وهو أمر يمكن تلمسّه في عدد غير قليل من القصائد؛ منها قصيدته «التراب المقدّس» التي يقول فيها:
«وسِّدْ الآن رأسك/ فوق التراب المقدّس/ واركع طويلاً لدى حافة النهر/ ثمة من سكنت روحه شجر النيل/ أو دخلت في الدّجى الأبنوسي/ أو خبّأت ذاتها في نقوش التضاريس/ ثمة من لامست شفتاه/ القرابين قبلك/ مملكة الزرقة الوثنية قبلك/ عاصفة اللحظات البطيئة قبلك..».
هكذا، تبدو استعارة النّيل، لدى الفيتوري، استعارةّ أثيرة، غير أنه يتسامى بها فوق جغرافيتها المحدودة التي قد تصلها بمصر أو السودان فحسب؛ ليجعل منها استعارة تمثيلية كبرى تمتدّ من المنبع حتى المصبّ، مروراً ببلدان وحضارات شتّى.
- 5 -
يستطيع القارئ الجيّد لمدونة الفيتوري الشعرية أن يلمح مدى قدرته على متابعة أغلب التحوّلات السياسية والاجتماعية التي مرت بها المنطقة العربية وإفريقيا، منذ تفاعله مع ثورة عرابي 1881م، وحادثة دنشواي 1906م، (كما في قصائد «عندما يتكلم شعب» و«النهر الظامئ» و«إلى مومياء»)، مروراً برصده الجمالي لأحداث القضيية الفلسطينية في بعض القصائد مثل «طفل الحجارة» وغيرها، والمسألة العراقية في قصيدة جميلة ذات نفس ملحمي بعنوان «يأتي العاشقون إليك يا بغداد»، يقول فيها:
«لم يتركوا لك ما تقول/ والشعر صوتك/ حين يغدو الصمت مائدة../ وتنسكب المجاعة في العقول/ لم يعرفوك، وأنت توغل عارياً في الكون../ إلا من بنفسجة الذبول/ لم يبصروا عينيك../ كيف تقلّبان تراب أزمنة الخمول/ لم يسكنوا شفتيك../ ساعة تطبقان على ارتجافات الذهول/ لم يشهدوك../ وأنت تولد مثل عشب الأرض/ في وجع الفصول/ لم يتركوا لك ما تقول/ لم يتركوا لك ما تقول ...».
تنهض شعرية الفيتوري وطاقته الإبداعية على محورين؛ أولهما قدرته على نسج مجازات مُدهشة تتخلّق عند التّخوم، كأنه واحد من شعراء المنفَى؛ نظراً لارتحاله الدائم بين السودان ومصر ولبنان وليبيا، حتى استقرّ به المقام أخيراً في المغرب، فضلاً عمّا ينطوي عليه الفنّان من غربة وجودية، وثانيهما خروج استعاراته من رحم مناخ إفريقي مُفعم بمفردات البكارة والبريّة والدماء الحارة وإرث أسود مثقل بالعبودية، وكل ما من شأنه إنضاج قصيدة حارة الطعم، سوداء اللون، فوّاحة الرائحة.
إرسال تعليق