مجلة الدوحة - الرباط - حوار: أنور المرتجي
منذ مطلع سنة 2012، تناسلت الإشاعات التي تُعلِن رحيل الشاعر محمد الفيتوري، وكان فرع اتحاد كتّاب المغرب بالهرهورة، قد أصدر في حينه بياناً للرأي العام الثقافي في المغرب وخارجه، أوضح فيه أن شاعر إفريقيا ما زال حاضراً يُقيم في شاطئ سيدي العابد، بضواحي العاصمة الرباط. وبحضور الفيتوري وجمهور وازن من الجالية السودانية المقيمة في المغرب وخارجه أقام فرع الاتحاد حفلاً تكريمياً لصاحب «اذكريني يا إفريقيا» (1965)، كما واكبت أشغال هذا الحدث الثقافي، متابعة إعلامية واسعة في الصحافة العربية والإعلام البصري والمكتوب، وفي سياق الحدث أرسل اتحاد كتّاب المغرب بياناً توضيحياً إلى أعضاء اتحاد كتّاب مصر وحصرياً إلى الجريدة الثقافية الأسبوعية (أخبار الأدب)، التي نشرت سهواً خبر نعي الفيتوري. رحب المثقفون المصريون بالبيان التوضيحي، وبادروا إلى الاحتفاء بالفيتوري، فهم يعتبرونه في القاهرة مصري الوجدان؛ فأول ديوان للشاعر السوداني «أغاني إفريقيا» (1955)، صدر في مصر، وكتب مقدمته الناقد المصري الكبير محمود أمين العالم.
ظاهرة الاغتيال المُتكرِّر بواسطة سلاح الإشاعة للشاعر محمد الفيتوري، مسألة تحتاج إلى البحث والتقصِّي، ربما الغرض منها من طرف خصومه نسيان ومحو الشاعر إبداعياً، وإسقاط اسمه من قائمة رواد الحداثة الشعرية، لأن كل الأخبار الكاذبة عن موت الشاعر الفيتوري مجهولة السند والرواية، ومصدرها في الغالب قادم من شرق المتوسط، حيث ما زالت تطارد شاعرنا الكبير ملابسات أصوله الموزعة بين السودان موطنه الأول، الذي أسقط عنه الجنسية في عهد النميري الرئيس المؤمن، وانتمائه الاضطراري إلى حوزة القذافي المقبور، الذي احتضنه في عز الضرورة التي أباحت له آنذاك، بعضاً من المحظورات السياسوية.
من أجل تنوير الرأي العام الثقافي، طلبت «الدوحة» من الفيتوري حواراً خاصاً ضمن ملف تكريمي به وتحية له من المجلة. استجاب الفيتوري لطلبنا، برحابة وبقلب مفتوح وابتسامة صادقة، والشكر موصول إلى السيدة زوجته المغربية أشرقت الفيتوري، التي هيأت لنا الظروف المُناسِبة لإنجاز هذا الحوار.
§ في البداية سألنا الشاعر محمد الفيتوري عن هويته المُلتبِسة، كشاعر عاش بين تخوم الجغرافيات العربية، فهو من أصل سوداني من جهة الأم، وليبي من جهة الأب، تَشكّل وعيه وتكوينه التعليمي بمصر واستقرّ به المقام والتقاعد عن العمل في المغرب، عن هذا المسار الحياتي سألناه كيف يُقيم تجربة الترحال الأوديسية على مستوى تجربته الشعرية؟
إنني أشعر بالانتماء الوجداني إلى كل أرض عربية أقمت فيها، لأنني مزيج مركب لما تميز به غيري من الشعراء، في كل المحطات الحياتية التي مررت بها، ستجدها حاضرة في أشعاري بصدقها وعفويتها، في صور ذكريات طفولتي التي تمثل مسرح أحلامي، حيث سعيت من خلالها إلى أن ألتزم الصدق في التعبير عن ذاتي وعن علاقتي مع الآخرين، إنني أشعر أن هويات متعددة تخترقني، هذا ما عَبّرت عنه في قصائدي.
أنا جسد... شجر... شيء عبر الشارع
جزر غرقى في قاع البحر
حريق في الزمن الضائع.
لا أدعي التميُّز والتفرُّد، لقد كنت في شعري مثل الآخرين، إنسان يحلم بأن تصل كلمته إلى الإنسانية جمعاء. وأن تنمو كلمتي الشعرية وتتلاقح مع أفكار الآخرين.
§ الفيتوري أحد رواد قصيدة الحداثة العربية، تميَّز عن بقية الشعراء بانحيازه للدفاع عن حرية الإنسان، وكرامة زنوجة إفريقيا، (يلتقي في تجربته الشعرية مع كبار شعراء الفرنكفونية، مثل ليبولد سيدار سنغور وايمي سيزار)، لكنه يتفرّد وحده في التعبير عن صوت إفريقيا باللغة العربية. سألناه كيف ينظر إلى تجربته الشعرية الملتزمة بالقضايا الإفريقية؟
- بالرغم من التحوُّلات التي عرفتها إفريقيا، فإنني ما زلت مُتحمسّاً ومُخلصاً لقضيتها... لقد سعيت منذ أن وعيت وجودي إلى أن: أكون مخلصاً لعدالة كفاح شعوب إفريقيا، التي مازالت تجري في عروقي. كل ما أتمناه لإفريقيا السمراء أن تستمر في كفاحها. وأن تتخلّص من مستغليها الجدد ومن حكامها الفاسدين، الذين يقبلون بالسيادة المنقوصة مقابل بقائهم في السلطة، أنا متفائل بأن إفريقيا قادرة غداً أن تتخطى عثراتها، وأن تجتاز بنجاح حروب الحقد والكراهية التي تجتاحها، ومواجهة حروب الإبادة العرقية التي تتعرّض لها شعوبها نتيجة للانقلابات العسكرية التي تنتج عنها أنظمة استبدادية، وذلك بالتحدي اليقظ لشعوبها ضد كل المناورات الخارجية التي تُحاك ضدها.
أعيش قلقاً، نتيجة للأوضاع المتدهورة التي تعرفها إفريقيا في مجال الحريات وحقوق الإنسان، التي لا تتجاوب ولا تنسجم مع تطلعاتنا التي حلمنا بها بعد الاستقلال. إن تغيير إفريقيا إلى الأحسن، لن يتحقق في ظل واقع الفرقة والتجزئة وتكريس الحدود المُصطنعة وتأجيج الصراعات القبلية التي تعرفها اليوم شعوب إفريقيا المتناحرة.
§ برغم ضيق الحال وتدهور حالته الصحية، فإنه مازال متشبثاً ببسمة الأمل، يردد مع المتنبي: (كم قد قتلت، وكم قد مت عندكم / ثم انتفضت فزال القبر والكفن). اغتنمنا الفرصة ورغبة الفيتوري الصادقة في الحديث معنا، وسألناه عن الموضوع الذي يؤرقه والإشاعات التي تعلن رحيله؟
- (بابتسامة ساخرة) لا أخاف الموت، لأنني مؤمن بأن الموت حق على الإنسانية كلها، طيلة حياتي كنت أنظر إلى الموت من موقع الرؤيا بالمعنى الصوفي، التي ترى أن الموت ليس هو الموت الجسدي الذي يتعارض مع الخلود الشعري.
يكتفي الفيتوري كلما بلغته إشاعة موته، بأن يطلق عند سماعها ابتسامة عريضة تدل على إصراره الأكيد بأن شمس إبداعه لن تغيب، وإن حضره الموت ووقت الرحيل، يَستحضر في هذا السياق بعضاً من شعره:
لا تقل ليتني أبداً لم أكن
ربما كنت أو ربما لم تكن
أنت هذا الذي اختزن الصرخات العميقة في روحه
والكآبة والصمت والضحكات.
§ بعد انتفاضات الربيع العربي دالت دول، سقط النظام الليبي الذي كان الفيتوري يحمل جواز سفره، لكن من حسنات هذا الحِرَاك العربي أن استعاد الفيتوري جواز سفره السوداني، الذي حُرِمَ منه طيلة أربعة عقود. سألناه كيف يتدبَّر حاجياته المعيشية وتوفير مصروف العلاج؟
- متأثر بالوضع المادي الصعب الذي أجتازه، لكن ما يخفف عسر الحال، أنني محاط بدفء العائلة الحنون، الذي تغمرني به أسرتي الصغيرة وجمهور قرَّائي.
(ثم أنشد الفيتوري في ختام لقائنا معه قائلاً):
وبعض عمرك ما لم تعشه،
وما لم تمته
وما لم تقله
وما لا يقال
وبعض حقائق عصرك،
أنك عصر من الكلمات
وأنك مستغرق في الخيال.
إرسال تعليق