أفردت مجلة الدوحة ملفاً كاملاً عن الشاعر السوداني محمد مفتاح الفيتوري في العدد 84 اكتوبر 2014 ننقل بعضه على صفحات (عين السودان) شاكرين لمجلة الدوحة احتفاءها بشاعر افريقيا
د. عبدالعزيز المقالح
- 1 -
الشعر هو المعجزة المستمرة في حياة العرب، هكذا كان، وهكذا سيبقى. والشعراء هم رواد التغيير والوعي الجاد. والشاعر محمد الفيتوري في طليعة هؤلاء الرواد، وهو -باختصار شديد- واحد من أهم الشعراء العرب في القرن العشرين وإفريقيته التي بدأت غاضبة صاخبة سرعان ما هدأت وتناغمت مع عروبته وخرج منهما شاعر كبير في حجم الوطن العربي وإفريقيا معاً.
- 2 -
من حقي أن أبدأ هذه التناولة السريعة بإشارة إلى صلتي بالشاعر، فقد تعرّفت عليه لأول مرة في أواخر الخمسينيات من خلال ديوانه الأشهر «أغاني إفريقيا»، وأسعدني الحظ بعد ذلك، في عام 1960 أن تعرّفت عليه شخصياً في مدينة الخرطوم، كان يومها يرأس تحرير مجلة «الإذاعة» التي تحوّلت في عهده إلى مجلة أدبية تتسع صفحاتها للشعر والقصة القصيرة والدراسة الأدبية، وتكررت لقاءاتنا في ذلك الحين، وأتيحت لي الفرصة أن أعرف من بعض أصدقائه المقربين أنه خرج من مصر مغاضباً بعد الحملة التي تعرض لها اليسار هناك، ويبدو أنه لم يكن بعيداً عن ذلك التيار المغضوب عليه، فهجر موطن أمه ليلتحق بمسقط رأس أبيه، لكن هجره لمصر لم يدم طويلاً فقد عاد إليها في أواخر الستينيات، كما أتذكر، وجمعتنا به جلسات أدبية طويلة وثرية في منزل شاعر سوداني شاب اسمه «أبو آمنة» الملحق الثقافي لسفارة السودان في ذلك الوقت، وكانت ترافق الشاعر -يومئذ- زوجته الممثلة المشهورة آسيا.
وانقطعت صلتي بالشاعر الكبير أعواماً طويلة إلى أن تجدَّدت في لقاء حميم تم في صنعاء وفي رحاب «ندوة الفكر والفن»، التي عقدتها جامعة صنعاء في عام 1988 انتصاراً لثورة أطفال الحجارة، وكان محمد الفيتوري من أبرز المشاركين في هذه الندوة التي جمعت العشرات من المفكرين والمبدعين والفنانين من شتى الأقطار العربية. وقد جاء الفيتوري من لبنان، حيث كان مقيماً، وودت لو كان وقته يسمح لزيارة جنوب البلاد ومدينة «عدن» بخاصة، وليتعرف إلى العدد الكبير من محبيه والمعجبين بشعره، لكن ظروفه كانت -كما قال لي- لا تسمح. وكان آخر تواصل بيننا أن بعث لي بواحد من دواوينه الأخيرة من المغرب.
- 3 -
كثيرٌ هم الشعراء العرب والأفارقة الذين كتبوا عن إفريقيا، وتغنّوا بطبيعتها، وواكبوا نضالها الطويل وتضحياتها في مواجهة قوى الاحتلال المختلفة، لكن يبقى محمد الفيتوري هو شاعرها الأول بلا منازع، وإن ظَلّ شعره فيها -إلا القليل منه- محصوراً في عروبة لغته. وأزعم أنني قرأت الكثير مما ترجم من قصائد الشعراء الأفارقة أمثال سينجور وسيزار، فوجدت الفيتوري يتفوق على هؤلاء، لأنه كان يكتب شعره -ومنذ بداياته الأولى- بأعصاب فائرة ملتهبة، ولا يكاد يشبهه في هذه الحال شاعر عربي أو إفريقي، وربما كانت ظروف حياته الأولى ومعاناته الذاتية والعامة وراء ذلك النوع من الانفعال الذي وجد في الشعر متنفسه الوحيد، وأمدّه بكل هذا العنفوان في اللغة والصور وأسلوب البناء:
إفريقيا...
إفريقيا استيقظي..
استيقظي من حلمك الأسود
قد طالما نمت... ألم تسأمي؟
ألم تملِّي قدم السيد؟
قد طالما استلقيت تحت الدجى
مجهدهً.. في كوخك المجهد .
هذا شعر يوقظ من في القبور، وليس من على قيد الحياة فقط ، شعر يهزّ جدران المعمورة لا جدران القارة السمراء وحدها، وقد كان له دور لا يُنكر في تغيير مفهوم الشعر لدى كثير من الشعراء الشبان أو الذين كانوا في ذلك الحين -من خمسينيات القرن العشرين- شباناً. ولا ننسى أن معظم الأقطار العربية -إن لم تكن كلها- قد كانت تعاني ما تعانيه أقطار القارة السمراء من احتلال ونهب للثروات وتكميم للأفواه وقمع للحريات ومنع للتنظيمات:
الليل..
ليل العبيد المتوجين العرايا
فوق أرض الخطايا
الآثمين.. النبيين
القاتلين.. الضحايا
مثلي.. ومثلك
نحن المسوخ
نحن السبايا.
يشير عدد من الدارسين إلى هذه المرحلة من إفريقية الشاعر بقدر من عدم الرضا، فقد اكتوى خلالها «بلهيب البغض والنقمة والثورة السوداء»، والسؤال هو: ما الذي كانوا يريدونه من شاب يعاني وجدانياً من الشعور بالتمييز والإحساس الجاد بالانتماء إلى قارة كبيرة مستباحة من قبل الأعداء، وما يعكسه ذلك على نفسه الفتية الثائرة من انفعالات وإحساس بدونية الأسود تجاه الأبيض:
فقير أجل.. ودميم دميم
بلون الشتاء.. بلون الغيوم
يسير فتسخر منه الوجوه
وتسخر منه وجوه الهموم.
ولكن ما يكاد يمر الزمان قليلاً حتى يستعيد الشاعر صفاء روحه وألق شعره ولا يعود للنظر إلى لون الإنسان بل إلى فعله، كما لم يعد ينظر في وضع القارة السمراء وحدها، بل بدأ انشغاله يتسع ويمتد ويشمل واقع أمته العربية وواقع العالم الذي كان في ستينيات القرن الماضي قد بدأ يثور على الأصنام والغزاة. وبدأت القضايا الإنسانية تأخذ مكانها في شعره الذي ارتقى شكلاً ومضموناً، وإن لم يهجر النظام الكلاسيكي فقد كان يعود إليه بين حين وآخر وهو عمود حديث في لغته وتركيب الجملة الشعرية فيه.
وفلسطين التي كانت لنا
سورة تُتلى، وقدّاساً يقامُ
وشيوخاً تذكر الله
فَملءُ المحاريب صلاةً وصيامُ
ونبيـين صفت أرواحهم
فلياليهم سجودٌ وقيام
كان بيت الله قدسيّاً بهم
قبل أن يأتي على القدس الظلام.
- 4 -
لا مبالغة إذا ما قلت إن الفيتوري شاعر المراثي بامتياز، ومراثيه لم تكن سوى بوح حزين يصوّر ما تختلج به نفسه من مشاعر حميمة تجاه الراحلين الكبار، وتجاه الأوطان التي فقدتهم، ومن أبرز هؤلاء الذين رثاهم الفيتوري الزعيم جمال عبدالناصر، والسياسي عبدالخالق المحجوب، والشاعر بشاره الخوري. ومما جاء في رثاء هذا الأخير:
أنت في لبنان..
والشعر له في رُبَىَ لبنان عرشٌ ومُقام
شاده الأخطل قصراً عالياً
يزلق الضوء عليه والغمام
وتبيت الشمس في ذروته
كلما داعب جفنيها المنام.
أما رثاؤه في المحجوب فقد كان ملحمة إنسانية بالدرجة الأولى ونسيجاً معبراً عن فقدان الأمل في حياة عربية حديثة تعطي للمواطن العربي شيئاً من حقه الطبيعي في أن يختار الانتماء الفكري والسياسي الذي يتناسب مع توجهاته وموقفه من الحياة والناس. لقد كشفت هذه المرتبة بخاصة عن حزن دفين يملأ قلب الشاعر وعن جراح غائرة في أعماق روحه. إذ ما يكاد الحدث المؤلم يلامسها حتى تنطلق لهباً حارقاً وصوراً تذكارية بالغة المرارة والشجن:
قتلوني
وأنكرني قاتلي
وهو يلتف بردان في كفني
وأنا من؟
سوى رجل واقف خارج الزمنِ
كلما زيفوا بطلاً..
قلت: قلبي على وطني!.
- 1 -
الشعر هو المعجزة المستمرة في حياة العرب، هكذا كان، وهكذا سيبقى. والشعراء هم رواد التغيير والوعي الجاد. والشاعر محمد الفيتوري في طليعة هؤلاء الرواد، وهو -باختصار شديد- واحد من أهم الشعراء العرب في القرن العشرين وإفريقيته التي بدأت غاضبة صاخبة سرعان ما هدأت وتناغمت مع عروبته وخرج منهما شاعر كبير في حجم الوطن العربي وإفريقيا معاً.
- 2 -
من حقي أن أبدأ هذه التناولة السريعة بإشارة إلى صلتي بالشاعر، فقد تعرّفت عليه لأول مرة في أواخر الخمسينيات من خلال ديوانه الأشهر «أغاني إفريقيا»، وأسعدني الحظ بعد ذلك، في عام 1960 أن تعرّفت عليه شخصياً في مدينة الخرطوم، كان يومها يرأس تحرير مجلة «الإذاعة» التي تحوّلت في عهده إلى مجلة أدبية تتسع صفحاتها للشعر والقصة القصيرة والدراسة الأدبية، وتكررت لقاءاتنا في ذلك الحين، وأتيحت لي الفرصة أن أعرف من بعض أصدقائه المقربين أنه خرج من مصر مغاضباً بعد الحملة التي تعرض لها اليسار هناك، ويبدو أنه لم يكن بعيداً عن ذلك التيار المغضوب عليه، فهجر موطن أمه ليلتحق بمسقط رأس أبيه، لكن هجره لمصر لم يدم طويلاً فقد عاد إليها في أواخر الستينيات، كما أتذكر، وجمعتنا به جلسات أدبية طويلة وثرية في منزل شاعر سوداني شاب اسمه «أبو آمنة» الملحق الثقافي لسفارة السودان في ذلك الوقت، وكانت ترافق الشاعر -يومئذ- زوجته الممثلة المشهورة آسيا.
وانقطعت صلتي بالشاعر الكبير أعواماً طويلة إلى أن تجدَّدت في لقاء حميم تم في صنعاء وفي رحاب «ندوة الفكر والفن»، التي عقدتها جامعة صنعاء في عام 1988 انتصاراً لثورة أطفال الحجارة، وكان محمد الفيتوري من أبرز المشاركين في هذه الندوة التي جمعت العشرات من المفكرين والمبدعين والفنانين من شتى الأقطار العربية. وقد جاء الفيتوري من لبنان، حيث كان مقيماً، وودت لو كان وقته يسمح لزيارة جنوب البلاد ومدينة «عدن» بخاصة، وليتعرف إلى العدد الكبير من محبيه والمعجبين بشعره، لكن ظروفه كانت -كما قال لي- لا تسمح. وكان آخر تواصل بيننا أن بعث لي بواحد من دواوينه الأخيرة من المغرب.
- 3 -
كثيرٌ هم الشعراء العرب والأفارقة الذين كتبوا عن إفريقيا، وتغنّوا بطبيعتها، وواكبوا نضالها الطويل وتضحياتها في مواجهة قوى الاحتلال المختلفة، لكن يبقى محمد الفيتوري هو شاعرها الأول بلا منازع، وإن ظَلّ شعره فيها -إلا القليل منه- محصوراً في عروبة لغته. وأزعم أنني قرأت الكثير مما ترجم من قصائد الشعراء الأفارقة أمثال سينجور وسيزار، فوجدت الفيتوري يتفوق على هؤلاء، لأنه كان يكتب شعره -ومنذ بداياته الأولى- بأعصاب فائرة ملتهبة، ولا يكاد يشبهه في هذه الحال شاعر عربي أو إفريقي، وربما كانت ظروف حياته الأولى ومعاناته الذاتية والعامة وراء ذلك النوع من الانفعال الذي وجد في الشعر متنفسه الوحيد، وأمدّه بكل هذا العنفوان في اللغة والصور وأسلوب البناء:
إفريقيا...
إفريقيا استيقظي..
استيقظي من حلمك الأسود
قد طالما نمت... ألم تسأمي؟
ألم تملِّي قدم السيد؟
قد طالما استلقيت تحت الدجى
مجهدهً.. في كوخك المجهد .
هذا شعر يوقظ من في القبور، وليس من على قيد الحياة فقط ، شعر يهزّ جدران المعمورة لا جدران القارة السمراء وحدها، وقد كان له دور لا يُنكر في تغيير مفهوم الشعر لدى كثير من الشعراء الشبان أو الذين كانوا في ذلك الحين -من خمسينيات القرن العشرين- شباناً. ولا ننسى أن معظم الأقطار العربية -إن لم تكن كلها- قد كانت تعاني ما تعانيه أقطار القارة السمراء من احتلال ونهب للثروات وتكميم للأفواه وقمع للحريات ومنع للتنظيمات:
الليل..
ليل العبيد المتوجين العرايا
فوق أرض الخطايا
الآثمين.. النبيين
القاتلين.. الضحايا
مثلي.. ومثلك
نحن المسوخ
نحن السبايا.
يشير عدد من الدارسين إلى هذه المرحلة من إفريقية الشاعر بقدر من عدم الرضا، فقد اكتوى خلالها «بلهيب البغض والنقمة والثورة السوداء»، والسؤال هو: ما الذي كانوا يريدونه من شاب يعاني وجدانياً من الشعور بالتمييز والإحساس الجاد بالانتماء إلى قارة كبيرة مستباحة من قبل الأعداء، وما يعكسه ذلك على نفسه الفتية الثائرة من انفعالات وإحساس بدونية الأسود تجاه الأبيض:
فقير أجل.. ودميم دميم
بلون الشتاء.. بلون الغيوم
يسير فتسخر منه الوجوه
وتسخر منه وجوه الهموم.
ولكن ما يكاد يمر الزمان قليلاً حتى يستعيد الشاعر صفاء روحه وألق شعره ولا يعود للنظر إلى لون الإنسان بل إلى فعله، كما لم يعد ينظر في وضع القارة السمراء وحدها، بل بدأ انشغاله يتسع ويمتد ويشمل واقع أمته العربية وواقع العالم الذي كان في ستينيات القرن الماضي قد بدأ يثور على الأصنام والغزاة. وبدأت القضايا الإنسانية تأخذ مكانها في شعره الذي ارتقى شكلاً ومضموناً، وإن لم يهجر النظام الكلاسيكي فقد كان يعود إليه بين حين وآخر وهو عمود حديث في لغته وتركيب الجملة الشعرية فيه.
وفلسطين التي كانت لنا
سورة تُتلى، وقدّاساً يقامُ
وشيوخاً تذكر الله
فَملءُ المحاريب صلاةً وصيامُ
ونبيـين صفت أرواحهم
فلياليهم سجودٌ وقيام
كان بيت الله قدسيّاً بهم
قبل أن يأتي على القدس الظلام.
- 4 -
لا مبالغة إذا ما قلت إن الفيتوري شاعر المراثي بامتياز، ومراثيه لم تكن سوى بوح حزين يصوّر ما تختلج به نفسه من مشاعر حميمة تجاه الراحلين الكبار، وتجاه الأوطان التي فقدتهم، ومن أبرز هؤلاء الذين رثاهم الفيتوري الزعيم جمال عبدالناصر، والسياسي عبدالخالق المحجوب، والشاعر بشاره الخوري. ومما جاء في رثاء هذا الأخير:
أنت في لبنان..
والشعر له في رُبَىَ لبنان عرشٌ ومُقام
شاده الأخطل قصراً عالياً
يزلق الضوء عليه والغمام
وتبيت الشمس في ذروته
كلما داعب جفنيها المنام.
أما رثاؤه في المحجوب فقد كان ملحمة إنسانية بالدرجة الأولى ونسيجاً معبراً عن فقدان الأمل في حياة عربية حديثة تعطي للمواطن العربي شيئاً من حقه الطبيعي في أن يختار الانتماء الفكري والسياسي الذي يتناسب مع توجهاته وموقفه من الحياة والناس. لقد كشفت هذه المرتبة بخاصة عن حزن دفين يملأ قلب الشاعر وعن جراح غائرة في أعماق روحه. إذ ما يكاد الحدث المؤلم يلامسها حتى تنطلق لهباً حارقاً وصوراً تذكارية بالغة المرارة والشجن:
قتلوني
وأنكرني قاتلي
وهو يلتف بردان في كفني
وأنا من؟
سوى رجل واقف خارج الزمنِ
كلما زيفوا بطلاً..
قلت: قلبي على وطني!.
إرسال تعليق