أفردت مجلة الدوحة ملفاً كاملاً عن الشاعر السوداني محمد مفتاح الفيتوري في العدد 84 اكتوبر 2014 ننقل بعضه على صفحات (عين السودان) شاكرين لمجلة الدوحة احتفاءها بشاعر افريقيا
منذ حوالي ستين عاماً، كتب محمود أمين العالم (1922 - 2009) دراسة حول الشعر المصري، وتناول فيها تطوّر الشعر منذ مدرسة الديوان، إلى مدرسة أبولو، إلى الشعر الجديد، وكان العالم ينتصر لنظرية الواقعية، وكتب دراسات ومقالات وآراء عديدة في صحف ومجلات، تطبيقاً على هذا المنهج، وكان يرافقه في هذه الكتابات الدكتور عبدالعظيم أنيس، وأثارت هذه المقالات ردود فعل عديدة، حرّكت الدكتور طه حسين، وتكلّم عباس العقاد وقال: «إنهما شيوعيان، ولن أردّ عليهما، بل سأقبض عليهما»، ودخل في المعركة توفيق الحكيم، الذي كتب سلسلة مقالات تحت عنوان «الأدب للحياة»، وكتب د. محمد مندور ورد علي الراعي وأحمد عباس صالح، واشتعلت الحياة الثقافية والأدبية. في هذه الدراسة التي كتبها محمود العالم عن الشعر المصري، تطرّق إلى تجربة الشاعر الشاب وقتها محمد مفتاح الفيتوري، الذي كان يعيش في مصر، وكان ينشر قصائده في عدد من المجلات المصرية، مثل الرسالة الجديدة، والمجلات اللبنانية، مثل الآداب والأديب، ولم يكن قد أصدر بعد ديوانه الأول، وكانت أولى قصائده قد كتبها عام 1948، متأثراً بإفريقيته وبلونه الأسود:
(الآن وجهي أسود
ولأن وجهك أبيض..
سميتني عبداً!. )
بعدها التقى في الخرطوم أحد مواطنيه، وقدمه إلى الفنان عثمان وقيع، ونهره هذا الفنان قائلاً: (ما هذا الشعر الذي تكتبه يا أخي.. لقد فضحتنا.. إنني أكرهك). ويعترف الفيتوري مُستطرداً: «لقد أردت بالفعل أن أفضح واقعنا الأسود، ولن أسمح لنفسي بتزييف هذا الواقع.. أريد أن أكون صادقاً مع نفسي أولاً.. وأن يكون ما أكتبه هو ما أحسه.. غير أنني أطمح إلى أن أتعرّف على الوجه الآخر لشقائي.. ولا تحسبوا أنني وحدي فمعي الملايين»، هذا الكلام كتبه الفيتوري عام 1966 في مقدمة ديوانه «اذكريني يا إفريقيا»، أي بعد كتابة قصيدته الأولى بما يقرب من عشرين عاماً، وبعد أن أدرك تجربته بعمق، ولكن الشعر الذي كتبه في تلك المرحلة المبكرة لم يكن معبراً تعبيراً دقيقاً عن تلك الكلمات، لذلك كتب العالم في دراسته: «الفيتوري يقف موقفاً وسطاً في حركة الشعر الجديد، فهو يُعد امتداداً لتجربة ناجي، وهو يعيش داخل مأساته الخاصة، ومشاعره الحادة، وهو لم يتخلّص بعد من الإطار التقليدي للتعبير، ولكنه يتميز بقدرة خارقة- تفوق قدرة ناجي- على إبراز القسمات وتجسيد الرؤية واصطناع الصور في جو رمزي غيبي.. وأنه لو نجح في التخلي عن قيود الشكل التقليدي وفي استيعاب الآفاق الجديدة والمشاركة في تعميق أبعادها الرحبة فسيكون له شأن كبير»، وردّ عليه الفيتوري – كما سنوضح فيما بعد –، وكان قد استفاد من حواره مع العالم، وبدأ يخرج من ذاته المتألمة لأن جلدته سوداء، وراح يتعامل مع الأمر بالفعل كقضية عامة تخص ملايين الناس، وهذا ما ترك أثراً على مستواه الفني، وأقدم الفيتوري على إصدار ديوانه الأول (1955)، وذهب بقصائده إلى أستاذه محمود العالم ليكتب له مقدمة، وصدر الديوان مُتضمناً مقدمة رئيسية لمحمود العالم، ومقدمتين أخريين لزكريا الحجاوي ورجاء النقاش. وكان المنهج الواقعي يتجلّى في مقالة محمود العالم، إذ يقول عن الفيتوري: «وكان يقف على العتبة الأخيرة من الفئة البورجوازية الصغيرة التي يمتلئ وجدانه بصراعها المرير من أجل العيش، وتمزقه قيمها المنهارة القلقة، وترددها القاتل، وتهدده هوات الشقاء التي تفتأ تتسع تحت أقدامها بين يوم وآخر.. في هذه المدينة التجارية الكبيرة- يقصد الإسكندرية- التي لا تكف سفنها عن المجيء والذهاب، والتي تقيم فيها الطبقة الأرستقراطية الأوروبية البيضاء مجتمعاً يكاد يكون مُقفلاً على أبناء البلاد.. والتي لا تعرف الوجه الأسود إلا خادماً ذليلاً.. واتخذت رحلته من الشعر مركباً لها.. واستهلت سبيلها متخذة حمولتها من هذه الأجواء جميعاً.. حصيلة من الضياع والغربة والإحساس البالغ بالدمامة والمهانة»، وبعد أن صدرت الطبعة الأولى من ديوان «أغاني إفريقيا»، لم يعجب هذا الكلام الكاتب الصحافي فتحي غانم، فشن هجوماً ضارياً على محمود العالم، في مجلة «آخر ساعة»، موقعاً مقالاً تحت عنوان «النقد الأسود». وأورد فتحي غانم فقرة يزعم أنها للعالم تقول :«إن الفيتوري يخدع نفسه ويخدع قرّاءه، وأنه يعيش داخل مأساته الخاصة، وأنه خائن لا يستحق شرف الدفاع عن الرجل الأسود، وأنه وزميله الكاتب الأميركي ريتشارد رايت كلاهما جاهل، ليس هناك ما يسمى بالقومية الإفريقية، وأن إفريقيا ليست موطناً للرجل الأسود»، وفي العدد الصادر من مجلة روز اليوسف في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 1955، كتب محمود العالم رداً على فتحي غانم، واعترف بأن بعض الكلمات التي جاءت في الفقرة السابقة، قد كتبها بالفعل، ولكن بعضها الآخر لم يكتبه، وردّ عليه الفيتوري في مجلة «الآداب». وما كان من فتحي غانم إلا أن قرأ مقدمة الديوان، وقرأ ما كتبه الفيتوري سابقاً، وشن هجوماً على العالم، مُختلِقاً بعض العبارات والمفردات التي لم ترد عند العالم، لا في مقاله بمجلة الآداب، ولا في مقدمة الديوان، وينتهي العالم، في رده على غانم، إلى أن :«حقيقة مشكلة فتحي غانم أنه يرفض المعالجة الموضوعية للأدب، كما يرفض كذلك المواجهة الموضوعية لحياتنا الإنسانية، ومثل هذا الرفض هو الذي يمنعه من البحث الجاد، ومن تحري الحقيقة والوقوف إلى جانبها، وهو الذي يجعله يتصوّر أن المسألة فيها تهديد ووعيد... ولكن التهديد والوعيد في الحقيقة صوت صادر من أعماقه».
وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على هذه المناقشات، كتب محمد الفيتوري شهادته عن هذا الجدل، وعن العالم في مقدمته لديوانه «اذكريني يا إفريقيا»، والمقدمة مؤرخة بتاريخ الفاتح من يناير/كانون الثاني 1966: «إن محمود أمين العالم، أكثرهم جدية، وإحساساً بمسؤولية الناقد.. إنني أحمل له قدراً كبيراً من المحبة والتقدير، غير أنني أثق تماماً في خطأ موقفه من الاتجاه الشعري الجديد الذي تبلورت ملامحه في ديواني «أغاني إفريقيا».. هل الخطأ في الموقف، أم أن الخطأ في التفسير؟ في النظرية أم في التطبيق؟، قلت له، وأنا أناقشه في مجلة «الآداب»: إنك لا تستطيع أن تتعمق في مأساتي.. لأنك لا تستطيع أن تعيش تجربتي»..
قال لي: إنها مأساتك الخاصة، تسقطها على قارة بأكملها على إفريقيا.. إنك شاعر مريض..
قلت له: المرضى كثيرون، وأنا واحد منهم.. كلهم يعانون مثلي.. أقصد كلنا.. ثق فيما أقول.. وأنا أريد في- هذه المرحلة من شعري- أن أتطهر من مرضي.. بأن أبوح به.. لقد جرؤت على أن أكسر الصدفة من الداخل، ولذلك تجدني أغني مُبتهجاً بمادة حزني:
(قلها.. لا تجبن.. لا تجبن
قلها في وجه البشرية
أنا زنجي.. وأبي زنجي الجد.. وأمي زنجية
أنا أسود.. أسود..
لكن حر أمتلك الحرية..).
قال لي: إنك تمزق القضية، وتمزق الطبقة، وتمزق الكتلة الجماهيرية الواحدة بدعواك إن هناك قضية منفصلة للسود.. إن العامل الأبيض والعامل الأسود، ينوءان معاً، تحت عبء تاريخي اجتماعي واحد، هو عبء الرأسمالي الأبيض والرأسمالي الأسود.. عبء الاستعمار والاستغلال.. فالقضية إذن ليست قضية أسود وأبيض، إنها قضية مُستغِل ومُستغَل..
قلت له: هذا حق.. وحق أيضاً هذه الوراثات والخصائص النفسية والفسيولوجية.. هذه الأحاسيس والانفعالات الملتوية التي انحدرت إلينا مع عذابات التاريخ.. إن بصمات عهد العبودية تركت آثارها على الأرواح أيضاً، وليس على الأجساد».
ورغم هذا الحوار الحّاد والحاسم في اختلاف موقف الشاعر عن موقف الناقد، إلا أن الفيتوري ينهي شهادته قائلاً: «وعلى الرغم من كثرة المتكلمين، فقد ظَلّ صوت محمود أمين العالم، أعلى الأصوات، وأعمقها في وجداني».
إرسال تعليق