الرئيسية » , » الحالات النفسية للفيتوري - سالم أبو ظهير

الحالات النفسية للفيتوري - سالم أبو ظهير

تم النشر يوم الأحد، 26 أكتوبر 2014 | 12:07 م

أفردت مجلة الدوحة ملفاً كاملاً عن الشاعر السوداني محمد مفتاح الفيتوري في العدد 84 اكتوبر 2014 ننقل بعضه على صفحات (عين السودان) شاكرين لمجلة الدوحة احتفاءها بشاعر افريقيا



سالم أبوظهير



ربما من الصعوبة لي ولغيري أن يُلخِّص في مقال واحد مسيرة إبداعية طويلة من العطاء المتواصل والمستمر، بدأت مع ستينيات القرن الماضي لتقترب من الخمسين عاماً، لشاعر بقيمة محمد مفتاح الفيتوري. في هذا العمر الطويل ثمة حالات عاشها الشاعر قد تُهمَل أو تُنسَى ظاهرياً، ولكنها تتضح بمجرد الإشارة إليها وتسليط قليل من الضوء عليها.



هذا المقال يستعرض وبشكل موجز بعض من الحالات النفسية التي عاشها وعايشها وتعايش معها الشاعر وأثرت فيه أو تأثر بها بشكل مباشر أو غير مباشر، أو كان لها دور في تكوين شخصيته الإبداعية والإنسانية، ومن ثَمّ انعكست على حياته العملية والشعرية ومجمل نتاجه الأدبي والثقافي على مدى عشرات السنين.

الشاعر محمد الفيتوري لا يعرف العام الذي وُلِدَ فيه فقد ذكر إحسان عباس أنه(1) «يجهل تاريخ ميلاده، ولكن الباحثين أجمعوا على أن 1930، هو تاريخ ميلاده الفعلي». عاش طفولته في الجنينة، وهي بلدة صغيرة هادئة بغرب السودان، وهذا أَثّرَ على شخصيته فأصبح يُؤْثِرُ الانطواء على نفسه ويكره الضوضاء. كان لحكايات جدته زهرة (أم والدته) تأثيرها العميق على تكوينه النفسي وهو في مراحل الطفولة؛ هذه الجدة كانت دائمة الشكوى والتذمر فتحكي بحرقة وربما بدموع لحفيدها الصغير عن ماضيها البائس، وعدم استقرارهم وهجرتهم من ليبيا إلى السودان هرباً من سطوة الطليان، كما كانت تشكو إليه معاناتها الشخصية ونظرة الناس الدونية لها لدمامتها ولونها الأسود، هذا كله كان له تأثيره العميق في تكوينه النفسي وأدائه الإبداعي فكانت زهرة حاضرة بقوة، ولم ينسها، وأهداها ديوان شعره المهم «يأتي العاشقون إليك» فكتب يقول(2): «إلى الزهرة الإفريقية.. جدتي المسكينة.. القائمة في ذاتي.. رغم شواهد النسيان».

كما تأثر الفيتوري بحكايات جدته عن جده الذي كان يتاجر بالعاج والرقيق، وكيف أن أمه لوالدته أصلها جارية، هذا كله كان كافياً لطفل يعيش في جلباب جدته أن يورث منها وفي وقت مبكر عقدة العبودية لتلازمه وتكون محور اهتمامه طيلة حياته كلها، وربما لتكون أيضاً سبب تميزه في معظم نتاجه الإبداعي.

في مرحلة الصبا غادر والد الشاعر قرية الجنينة الهادئة مُصطَحِباً أسرته، ليستقر في الإسكندرية، لتبدأ معاناة شاعرنا ويزداد شعوره بالحزن بسبب العيون التي كانت ترمقه باستغراب بسبب لونه وتعاظم إحساسه بالدونية وقصر القامة، وكان نتيجة هذا الإحساس أن أصبح أكثر انطواء على نفسه من ذي قبل، وقد وصف محمود أمين العالم(3) ذلك فقال «إن بشرته السوداء كانت تقيم بينه وبين المدينة التي يحيا فيها حاجزاً كثيفاً يحرمه المشاركة والاندماج ويشعل في نفسه مشاعر مريرة»، وقد بقيت هذه المشاعر والحالات النفسية مكبوتة في عقله الباطن زمناً طويلاً، حتى عبر عنها في شعره:

فقير أجل.. ودميم دميم

بلون الشتاء.. بلون الغيوم

يسير فتسخر منه الوجوه

وتسخر حتى وجوه الهموم

فيحمل أحقاده في جنون

ويحضن أحزانه في وجوم(4)



وقد بين نجيب صالح(5) أن الشاعر في هذه المرحلة «كان يحس إحساس الرجل، كانت عنده يقظات حواس مبكرة قبل أن تنضج، وكانت لأقاصيص جدته الزنجية ولأساطيرها أثرها البعيد في نفسه، كان يبحث عن الحقيقة في اليقظة المبكرة، كل ذلك تضافر وساعد على استيقاظه الدائم للكلمة والنظرة، لقد كان في هذه المرحلة مُتذمراً تحت وطأة شعوره بأنه مشدود إلى قيد ما هو قيد لا يدرك مداه، ويرفض محتواه، وكان يحس أن بركاناً بدأ مرحلة الانفجار الأولى».

في هذه المرحلة أيضاً حفظ القرآن الكريم، وكتبه بيده، كما درس الحساب والأناشيد وكتب مواضيع الإنشاء، ثم التحق بعدها بالمعهد الديني الأزهري، ثم بالمعهد الثانوي في القاهرة، وليواصل دراسته هناك حتى عام 1953، ويُجْمِعُ النقاد على أن هذه الفترة تعدّ من الفترات المهمة في حياته، حيث تمكّن من الاطلاع على مختلف المعارف الإنسانية والدينية والفلسفية، وأكاد أجزم أن بسبب انطواء الشاعر على نفسه زاد نهمه في التحصيل المعرفي الذي مَثّلَ رافداً قوياً له في عمله كصحافي، ورغم أنه لم يكن له أصدقاء في العالم الواقعي، لكنه وبلا شك كَوّنَ صداقات متينة مع عنترة، وأبي زيد الهلالي، وتولوستوي، وفاوست، وجوته، وبودلير هذا الشاعر الفرنسي الشهير الذي نادى في شعره بتحطيم الفوارق الطبقية.

في عام 1954 التحق بجامعة القاهرة، وبدأ الدراسة بقسم الآداب الإنسانية، وهو مزهواً بنفسه معتداً بما يحمله في رأسه متفوقاً به عن أقرانه، ولكنه كان كسولاً، ولا يواظب على حضور المحاضرات، وتنامى إحساسه بأنه مقيد، وأن هناك من يكبله بقوانين ولوائح، فترك الجامعة قبل أن ينال شهادتها. والتحق بالصحافة ووجد فيها البراح الواسع للحرية، فأطلق العنان لقلمه، وبرز نجمه كصحافي قدير ثم كشاعر مهم في مصر، والدول العربية وإفريقيا كلها التي تغنى بها وحده كما كان يقول دائماً.

أثر في شخصيته والده الشيخ مفتاح رجب الفيتوري صوفي كبير وشيخ السجادة الصوفية من خلفاء الطريقة الشاذلية الأسمرية، فقد كان الشاعر يترك اللعب، لينضم لرفاق والده مُردداً معهم التواشيح الصوفية التي كان لها دور بارز في شعره.

أزمة الهوية عند الفيتوري والانتماء للوطن والاستقرار فيه كانت حالة نفسية تشكل له هاجساً يؤرِّق حياته الشعرية والشخصية بسبب اختلاط نسبه وتحديد هويته، فجدته زنجية، ووالده من ليبيا، وأمه تعود أصولها لتاجر إفريقي يتاجر في الرقيق والعاج. سحب منه النميري جنسيته السودانية، فمنحه القذافي الجنسية الليبيية وجواز سفر دبلوماسياً، ثم سُحِبَتْ منه الجنسية الليبية بعد قيام الثورة الليبية، ومؤخراً منحته القيادة السودانية جواز سفر دبلوماسياً وأعادت إليه جنسيته السودانية. مهنته كدبلوماسي سهلت له السفر الدائم، وقبلها تنقله الدائم من بلد لبلد أورث شاعرنا إحساساً متأصلاً بالغربة التي شكَّلت أبرز ملامح شخصيته ومنحته لوناً مميزاً في أدبه وشعره.

علاقته بالسلطة والرؤساء معقدة، أحبه أنور السادات، وقربه إليه في بداية مسيرته، وأرسله ليشارك بلاده في عيد استقلالها عام 1956، وبعدها بسنوات هجاه في قصيدة (الراقدون على بطونهم والدجى من فوقهم حجر) الشهيرة، إرضاء للقذافي الذي رحب به بعد أن طرده النميري وسحب منه جواز سفره وجنسيته، فمنحه القذافي كل ما يريد.. وسام الفاتح وجنسية ليبية وجواز سفر دبلوماسياً ووظيفة سفير، هذا ما جعل الفيتوري يصفه في إحدى قصائده بأنه مثل بعض النبيين!!!

كان شاعرنا شديد الإعجاب بالرئيس محمد نجيب، بينما هاجم جمال عبد الناصر، هجوماً لاذعاً في قصيدة «مات غداً»(6) قال فيها:

مات

وملء روحه المسودة المحترقة

رمز يغطيه دم المشانق المعلقة

وصرخات الثائرين في السجون المطبقة

كتب قصيدة شعرية في بغداد عنوانها «يأتي العاشقون إليك»، أعجب بها صدام حسين كثيراً فقربه منه ومنحه جائزة قيمتها مئة ألف دولار، وكان صديقاً حميماً للرئيس الجزائري السابق أحمد بن بلة، كتب عنه يقول :

يا بن بيلا

ما أجمل أن يصحو الإنسان

فإذا التاريخ بلا قضبان

وإذا الثورة في كل مكان(7)

هذه العلاقة مع الرؤساء ولدت عنده نوعاً من الزهو والتفاخر جعلاه يتطاول على النقاد ولا يعترف بهم، ويقلل من أهمية أقرانه الشعراء، فقال إن أحمد عبد المعطي حجازي ليس شاعراً بالمطلق وإنه مجرد ناقد، والبياتي أيضاً، وحتى محمود درويش عنده ليس شاعراً، ولكن القضية جعلت منه شاعراً، ونزار قباني في نظره شاعر، لكنه كان في خدمة آخرين. الفيتوري يعتقد دائماً ولايزال إن كان الشعراء لا يموتون فهو أكثرهم بعداً عن الموت، ويقول

مثلي أنا ليس يسكن قبراً

(8) لا تحفروا لي قبراً

سأرقد في كل شبر من الأرض



هامش

-1 د. إحسان عباس: اتجاهات الشعر العربي المعاصر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت، 1998، ص 2.

-2 محمد مفتاح الفيتوري: يأتي العاشقون إليك، دار الشروق، القاهرة، ط1 1992 م _ 1413 ه، ص5.

-3 محمود أمين العالم: «هذا الديوان» مقدمة ديوان أغاني إفريقيا المجلد الأول، دار العودة بيروت، الطبعة الثالثة، 1979، ص 42.

-4 محمد الفيتوري: ديوان الفيتوري، المجلد الأول، دار العودة، بيروت، الطبعة الثالثة، 1979 ص16.

-5 نجيب صالح. محمد الفيتوري والمرايا الدائرية. الدار العربية للموسوعات بيروت. الطبعة الأولى 1998 ص8.

-6 محمد الفيتوري: ديوان «أغاني إفريقيا»، مكتبة الحياة، بيروت، 1967 م. ص20.

-7 محمد الفيتوري: ديوان «عاشق من إفريقيا»، دار الشروق، ط 1 1992 ص22.

-8 محمد الفيتوري: ديوان أقوال شاهد إثبات، منشورات الفيتوري الثقافية، 1988 م، ط 4 ص26.
شارك الموضوع :

إرسال تعليق

 
جميع الحقوق محفوظة لموقع (عين السودان) الإخباري الوثائقي