لم أرتح أبدا لهذه الفكرة الرائجة التي ترددها الغالبية العظمى من الشباب السوداني, وإن كنت أفهم أن تصدر من الذين لا يهتمون بالشأن العام ولا يتابعونه؛ إلا أنني في الحقيقة أستغرب جدا من رواجها بين النشطاء السياسيين والمدونين وكتاب الفيسبوك "المهتمين بالسياسة" الذين يساهمون بشكل أو بآخر في تشكيل رأي عام حول قضايا وهموم الوطن.
في رأيي المتواضع ليس هناك من سبيل لإصلاح الحال السياسي في السودان –أو في أي بلد آخر- سوى عن طريق الأحزاب, والباحث عن إصلاح السياسة بعيدا عن الأحزاب مثل الذي يبغى تطوير الرياضة دون الإهتمام بالأندية أو دعم التعليم دون إصلاح الجامعات أو النهوض بالإقتصاد بدون بناء شركات قوية.. ببساطة لأن الأحزاب هي آلية العمل الأكثر نجاعة في الحقل السياسي, ولأن تعريف الحزب بدون فلسفة كثيرة نابع من مبدأ أن (اليد الواحدة لا تصفق) وعليه فإننا نحتاج لأن نشكل "فرق عمل" بناء على توافق رؤانا السياسية لتحويل هذه الرؤي إلي خطط للعمل على أرض الواقع, ومهما كان لدينا من حشود من الشباب الواعي المثقف الذي يملأ سيرفرات موقعي فيسبوك وتويتر بأفكاره النيرة والجذابة فستظل تلك الحشود بعيدة عن السلطة وعن الجماهير مالم "تنخرط في" أو "تشكل" تنظيمات تعرف كيف تتعاطي مع السياسة والناس بأكثر من تفاعلات اللايك والشير !!
إن كنت من الذين يحبون التصنيف قبل الإطلاع علي رأي محدثك فلن أحرمك من هذه الرغبة, أنا أكتب هذا المقال دفاعا عن فكرة التنظيم والحزبية ودفاعا عن جميع أحزابنا الموجودة حاليا في الساحة السياسية بالسودان بهياكلها الحالية وبذات الشخوص الموجودين علي مواقعها القيادية حاليا.
وأنا خريج رابطة الطلاب الإتحاديين الديمقراطيين بجامعة الخرطوم وأنتمي سياسيا لهذه المدرسة.
إذا كان لديك أي إعتراض أو فلنقل نصيحة أو ملاحظة على إنتمائي لهذا التنظيم فيمكن أن أستمع لها خارج سياق هذا المقال لأن موضوعه ليس إنتمائي ولكن فكرة الحزبية عموما, ولكن لا بأس أن أنبهك مسبقا أن ردي يمكن أن يجئ على شاكلة: وإنت مالك ومالي !!
هذه المقدمة ضرورية لكي أوضح أني أتحدث عن تجربة شخصية ولكيلا يبدو أني أدعو لأمر لم أطبقه على نفسي. والآن ندلف إلي الأسباب التي "توجب التحزب" من وجهة نظري, وأعتذر مقدما عن طول المقدمة والمقال:
--
أولا: لكي تحدث تأثيرا:
بطبيعة الحال يمكنك أن تمارس السياسة كمستقل ولكن مرة أخرى نقول أن (اليد الواحدة لاتصفق), في كل العالم ظل تأثير المستقلين في السياسة محدود واسألوا الدكتور كامل إدريس!
لذلك فإن هذا المقال موجه للذين يرغبون في إحداث تأثير في الساحة السياسة والجماهيرية, لا غرو أنني أحترم كل من لا يريد الإشتغال بالسياسة ولا بهمومها, لأن (حب الناس مذاهب) ولأن السياسة عمل طوعي لا يمكن أن يجبر عليه أحد. ولأن في أغلب دول العالم (الديمقراطية والمتقدمة) نسبة المتحزبين سياسيا لا تتجاوز 5% من البالغين في أفضل أحوالها, في بريطانيا مثلا وفيها أعرق الأنظمة الديمقراطية لا يتعدي عدد الأعضاء المسجلين في الأحزاب الثلاثة الكبري 400 ألف من شعب تعداده تجاوز ال80 مليون.
لذلك لا بأس أن تبتعد عن الموضوع تماما, هذا لن يمنعك حقك في الإعتراض دوما علي أي قرارات سياسية أو السخرية من أي حزب كان, أما الذين لديهم رؤية سياسية معينة أو رأي واضح في كل ما يجري في البلد حتى ولو كانوا يكتبونه فقط علي الفيسبوك فإنهم سيظلون في موقف سلبي ما دام كل ما يقدمونه هو الكلام والكلام فقط.. ويبلغون قمة السلبية –في رأيي- حين يهاجمون الأحزاب –خاصة المعارضة- لضعف ممارستها السياسية -رغم أنها تفعل ما لا يفعلوه- أو يهاجمون المنضمين لها بإعتبارهم (إختاروا الحزب الخطأ) !!
أولا ليس هناك "حزب خطأ" كما سنوضح لاحقا, ولكن هذه ليست المشكلة, ربما سيجدون "الحزب الصحيح" لاحقا .. المهم أنهم على الأقل "دخلوا بيوت السياسة من أبوابها" ونظموا أنفسهم ليحاولوا تحويل أفكارهم إلي واقع.. لا يعيبهم لو حلموا بالسلطة أو المنصب ما دام إختاروا طريق التداول السلمي لتحقيقها.
--
ثانيا: لأنك لا يجب أن تخاف من الأجندة الخاصة:
أسهل الإتهامات التي يغدقها الناس علي المتحزبين أن لديهم "أجندة خاصة" !! وهذا لعمري غاية الغرابة, لأن فكرة الحزب الرئيسية أن يكون لأعضاءه أجندة مشتركة, وعلى رأس هذه الأجندة الوصول للسلطة !!
نعم ببساطة هدف "كل حزب سياسي في كل مكان في الكرة الأرضية هو السلطة" ! هناك أجندة خفية لا تقرأ في العلن, لكن ماذا تتوقعون أن تكون.. اليساريون مثلا سيتحدثون عن تحجيم الخطاب المحافظ في المجتمع حتي يتسنى لهم الإنطلاق في بيئة أكثر إنفتاحا, هذا شئ طبيعي, المحافظون بالمقابل سيتفقون على مواجهة كل دعاوي التغيير..
هذا هو الحال داخل الأحزاب .. مثل أي مجال بشري آخر, صراع مستمر من أجل البقاء, نعم يصبح أكثر شراسة أحيانا وأحيان أخرى أكثر دموية لكن يمكنك بسهولة أن تتجنب ذلك إذا إخترت الحزب الأكثر تناسبا مع مبادئك وأفكارك.. هناك سلسلة مقالات كتبتها قبل عامين "سياسيون ولكن عظماء" تحمل نماذج سياسية إكتسبت حب الناس وتقديس التاريخ تجدون روابطها في التعليقات لو أردتم الإطلاع عليها, قد تكون السياسة قذرة فعلا ولكنها بيئة تتعرض فيها المبادئ والقيم لأقسى الإختبارات لذلك فإنها رغم كل تلك القذارة تصنع أبطالا حقيقيين !!
كتب أحد أصدقائي مرة أن السياسيين مثل الحفاضات, تحتاج لتغييرها بإستمرار, لا أدعي أنني أوافق علي هذا التشبيه لكن تجاوزا لا يمكن لأحد أن ينكر أهمية الحفاضات لأنها تخلصنا من كل القذارة التي ننتجها بأنفسنا !!
حتى لا نخرج من موضوع الفقرة نعيد التأكيد, دعهم لا يخوفوك بأن الشيوعيون لديهم أجندة, الجميع لديه أجندة, الفكرة فقط إن كانت تلك الأجندة تخدم الوطن أم لا .. والحكم هنا أنت !! أما إذا كنت تبحث عن حزب بلا أجندة فحظا سعيدا .. لكنني لا أعرف حزبا كهذا قط !!
--
ثالثا: لأنه لا توجد إجابة مثالية ولا برنامج مثالي:
إن معظم ردود الفعل التي أرصدها عند المتخوفين من الإنضمام لأي تنظيم سياسي هي أنهم يبحثون عن حزب مثالي, لم يرتكب منسوبيه أي خطأ في التاريخ كله, وهذا فضلا عن كونه غير موجود في السودان وربما في العالم –إلا لو كان الحزب تأسس في الأسبوع السابق- فإنه سبب غير موضوعي أبدا, بإنضمامك لأي حزب فأنت غير مسئول عن أي "أوزار" تاريخية تسبب فيها أشخاص حملوا نفس البطاقة الحزبية قبل خمسين عاما, السياسة عموما كثيرة التقلبات, الراهن السياسي هو الذي يحكم جاذبية الأحزاب, إذا كنت تبحث عن حزب كان صائبا على الدوام فإنك لن تجده! عليك إذن أن تنظر إلي الخط العام للحزب, إعترافه بالأخطاء ومحاولاته لعلاجها..
كأن تقرأ هذا المقال مثلا فتجد بعض الأخطاء الإملائية أو النحوية, بإمكانك تجاوزها لو نجح كاتبه في إيصال الفكرة العامة. بالتأكيد سيكون من الأفضل أن تقل تلك الأخطاء, لكنها حدثت وإنتهت, فليكن حكمك أكثر موضوعية علي فكرة الحزب العامة وخطابه ومجمل أدائه السياسي.. ما دام الموقف الحالي مشرف, وما دامت الأخطاء عرفت على أنها أخطاء وتم الإعتذار عنها فإنه ما من سبب لنظل حبيسين لمحطات قديمة في التاريخ !
--
الشئ الآخر أنه ليس هناك حزب يقدم البرنامج المثالي, إن أي برنامج حزبي هو "وجهة نظر" قابلة للصواب والخطأ في كل أوجهها, وإنضمامك للحزب الإتحادي مثلا لا يعني أن الإشتراكية التي يؤمن بها الشيوعيون فاشلة !! إنه تعبير فقط عن (إقتناعك الشخصي) بأن برنامج السوق الحر الإجتماعي أفضل لإدارة الإقتصاد السوداني في المرحلة الحالية. ليس مطلوبا منك حتى أن ترجع في كتب التاريخ القديم لتبين أن ماركس كان علي خطأ !؟ ليس ضروريا البتة !! يكفيك أن تدرس النظريتين الإقتصاديتين لكلا الحزبين لترى أيهما أكثر ملائمة للسودان.. برامج الأحزاب في كل الدنيا إجتهادات بشرية, إختر البرنامج الأنسب مع أفكارك ورؤاك.
ليس هناك فكرة أصح, حاول أن تجد بيئة مناسبة لتعمل فيها, إن كنت تقدس العدالة الإجتماعية مثلا ربما عليك أن تنحاز يسارا .. لو كنت من أنصار الملكية الفردية لليمين در, لا عليك بصحة النظريات, السياسة هي أن تجد فريقا يصلح أن تكون جزءا منه, فيما بعد هناك مفكرون ونقاد داخل كل كيان لتطوير البرامج الفكرية, ربما ستكون منهم لاحقا, المهم الآن فقط أن تجد من تتفق معهم في المبادئ.
علي الإنترنت توجد عشرات الإختبارات التي يمكن أن تساعدك علي تحديد ميولك السياسي بناء علي أفكارك وتفضيلاتك الخاصة .. أنصحك بتجربتها !
--
رابعا: لأنه بإمكانك أن تغير عضويتك الحزبية في أي وقت:
إن إنخراطك في أي تنظيم حزبي لا جب أن يقترب حتي من مرتبة المعتقد الذي لا يقبل المساس, إن الحزب بمثابة فريق عمل مناسب كما ذكرنا, قناعاتك وأفكارك الخاصة عرضة للتغير مع الزمن, لو حدث ذلك غير تنظيمك الحزبي بما يتوافق مع أفكارك الجديدة, ليس في ذلك عيب ولا مشكلة !! حتي لو ظهر حزب جديد رأيت أنه يناسبك أكثر بإمكانك الإنضمام إليه !!
التقلبات الحادة بالتأكيد تثير شبهة الإضطراب الفكري, لكنها ربما تكون علاج لخطأ في الإختيار في البداية, تماما مثل طالب ظن أن رغبته دراسة الهندسة بينما هو في الأصل يفضل الكيمياء! لو كنت بحاجة لخطوة شجاعة كتلك, قم بها, تغيير اللافتة السياسية لن يكون أبدا بصعوبة تغير التخصص المهني!
--
خامسا: لأن التحزب لن يحجر أرائك الشخصية:
لن يمنعك شئ من تبني وجهة نظر مخالفة للتيار العام داخل أحد الأحزاب, لو كنت من منسوبي حزب الأمة وترى أن الصادق المهدي أخطأ في إتفاق باريس الأخير مثلا فهذا رأيك, يمكنك أن تتبناه داخل الحزب أيضا, ليس عليك أن تدعي إعجابك بهذا الموقف وتدافع عن أخاك الحزبي ظالما أو مظلوما, أخطأ الرجل وماذا في ذلك !؟ أنا ما زلت حزب أمة وسأدافع عن رأيي داخل الحزب, هكذا تعمل الأحزاب في كل الدنيا!!
موقف أي حزب من أي قضية هو خلاصة لأراء أعضاءه وتجميع لها.. الحزب مدرسة يعلمك إحترام الرأي الأخر كما يعلمك الدفاع عن وجهة نظرك بالحجة .. والحجة القوية .. صدقني لو كان رأيك مليئا بالثغرات فستتلقى ضربات عنيفة.. عموما هذا سيجعلك أقوى على المدى الطويل.
--
سادسا: لأنه بإمكانك أن تنشئ حزبك الخاص:
عايز تعمل حزب جديد !؟ أخير من قعاد ساي..
لدى مسجل الأحزاب السودانية قائمة بأكثر من 70 حزب وتزيد, أنا لم أقرأ برامج معظمها, لكنني متأكد يقينا أنها جميعا تملك برامجا رائعة, بما في ذلك حزب المؤتمر الوطني .. كلها برامج رائعة على الورق, العبرة تكون بالتطبيق فقط, إننا لسنا بحاجة لحزب علي الورق, لا تملأ صفحات الفيسبوك واليوتيوب بنظريات سياسية معقدة لتدعي أنك تمارس السياسة أو أنك حزب تقدمي, بمجرد إعلانك لحزبك الجديد ستكون مسئولا عن الضعف السياسي الذي ترمي به الأحزاب ليل نهار بينما كنت تتكئ أمام شاشة "لابتوبك" علي فراشك الوثير..
بمجرد إعلانك سنسألك أن تخاطب المناصير وتجلس في مخيمات دارفور وتحاول زيارة حلايب وتقدم حلولا لأزمة الصرف الصحي في السلمة وأن تطلع على ملفات ترسيم الحدود في أبيي!!
إذا كنت ما زلت ترى في نفسك الكفاءة فلقد أثرت إعجابي حقا, فكر في أن تتصل بي قبل أن تنشئ حزبك الجديد, فربما تقنعني بالإنضمام إليك, أنا جاد جدا, لو كنت تشعر أن بإمكانك بناء حزب قوي حقا فعليك أن تبدأ الأن !!
إذا أيقنت أن الأمر ليس سهلا كما كان في البداية! حاول أن تكسر الحاجز النفسي إذن, حاول إيجاد منظومة سياسية موجودة وإنضم إليها, الأمور لن تكون سهلة للغاية لكنها ستكون أسهل بكثير من محاولة إنشاء حزب جديد, صدقني هذا الحديث عن تجربة خاصة, معظم الأحزاب السودانية تمتلك رؤى سياسية شبه مكتملة, المشكلة فقط تنظيمة, لو كنت ترى أن بإمكانك الإسهام في هذا المجال تقدم فورا.. منصب قيادي ينتظرك في أحد الأحزاب الكبيرة !!
--
سابعا: لأن الثورة تحتاج لمن يحميها:
هناك تجربة تابعها معظم المهتمون بالسياسة وحتي غير المهتمين في السنوات الأخيرة وهي التجربة المصرية في الثورة من 2011 وحتى يومنا هذا!!
إهتمامي كان دائما بهذا الجانب .. الأحزاب, مصر مثل السودان عانت من سنوات حكم شمولي طويل, لذلك لم تنشأ فيها "أحزاب قوية".. ستكون هناك إختلافات كثيرة حول 30 يونيو وهل هي ثورة أم إنقلاب .. لكن ماذا لو لم يكن المصريين أمام هذا السيناريو أصلا !؟ لنرجع قليلا إلي الإنتخابات التي تلت ثورة 25 يناير:
في مصر ثلاث تيارات رئيسية .. الإخوان وهم معروفون, يقابلهم ممثلو الدولة العميقة أو ما عرف لاحقا بفلول الحزب الوطني, التيار الثالث هم ما يمكن أن نطلق عليهم تيار الثورة, وهو يشمل البرادعي وحمدين وأبوالفتوح, البرادعي لم يترشح وأبو الفتوح وحمدين رغم إحرازهم لنسب جيدة لكنهم لم يعبروا المرحلة الأولى..
في رأيي الخاص أفضل تيار كان يمكن أن تحظى به مصر الثورة هو هذا التيار الأخير لكن التيارين الآخرين فازا بأغلبية الأصوات (مرسي وشفيق) لأنهما وببساطة "الأكثر تنظيما"..
التنظيم هو الكلمة السحرية التي تحتاجها السياسة في العالم الثالث, على كل اللبيراليين والمثقفين المتعجبين أو الغاضبين من فوز الإخوان في أغلب دول الربيع العربي أن يتعلموا منهم التنظيم .. كيف يتوقعون أن ينافسوا بأصواتهم "المشتتة" أحزاب الإخوان القوية !!
إن تجربة مصر تخبرنا أن الثورة الشعبية حتى وإن حدثت في السودان فإنها سترتد عل عقبيها إن لم يبني من صنعوها أحزاب قوية تعرف كيف تترجم "الإنتصارات الإعلامية" إلي "أصوات في الصناديق" !!
--
ثامنا: لأن الحزبية هي الطريق لسياسة خالية من العنف:
الجامعات هي أكبر الروافد الحالية لعضوية الأحزاب السودانية وأنا شخصيا أتمنى إستمرار هذا الأمر.. لكن النشاط السياسي متهم بإثارة العنف داخل الجامعات.. هذا العنف هو أحد أكبر العوامل التي تؤدي للتنفير عن ممارسة السياسة, في الجامعة وعلى إمتداد الوطن الكبير أيضا, نؤثر جميعنا السلامة –وهذا ليس عيبا أبدا-, لو كان هذا خيارك سأحترمه, لكن لو لم تزل تجد في نفسك إهتماما بالسياسة فدعنا نتفق أن التنظيم الحزبي هو الحل المبدئي لنبذ العنف في السياسة, التنظيم الحزبي –كفريق عمل- يتجاوز كل الحواجز الدينية والعرقية والقبلية, ليتجمع الذين يريدون ممارسة السياسة بناء علي توافقهم الفكري فقط كما ذكرنا, لو نجحنا في بناء أو تطوير أحزاب قوية لا تعتمد فكرة الجهوية والقبلية لتقدمنا خطوة في سبيل التخلي عن العنف.. بلا شك.
لو واصلنا تبنينا لفكرة أن نبتعد عن الحزبية ستظل كل هذه الحواجز موجودة وستنتج عن هذا ممارسة سياسية مشوهة.. تماما كما يحدث الآن.
ممارسة السياسة في الجامعات ليست بدعة سودانية ولكنها موجودة في كثير من دول العالم, لأوباما فيديوهات شهيرة يمكنك إيجادها على اليوتيوب حينما كان يقود إضرابا في هارفارد مناصرة لقضايا سياسية .. أوباما نفسه بعد أن ترشح للرئاسة جاء ليناظر منافسه مكين في إحدى جامعات نيويورك, هذا لأن الحرم الجامعي مكان مناسب للنقاش السياسي الهادئ والمرتب ولأن جمهور طلاب الجامعة معتادين علي مقارعة الخطب السياسية.
ربما لم أستطع أن أقنعك بعد, حسنا مرة أخرى أقول أن الممارسة السياسية هي خيار طوعي تماما, إما أن تكون مهتما بالسياسة فأنا أخبرك أنه رغم كل الذي حصل ويحصل فإن الحزبية هي أفضل ما وصلت له البشرية لممارسة السياسة بصورة سليمة وآمنة. وأن التجربة السودانية في هذا الشأن بدأت في 53 لم تكن مثالية حتي الآن .. لكن ومرة أخرى لا سبيل لنا إلا بتطويرها .. السماء لن تمطر أبدا "أحزابا رائعة" على السودان لتنضم إليها.. هذا هو الموجود.. إنضموا للحزب الأقرب لكم وحاولوا أن تطوروه أو أصنعوا أحزابا جديدة حتى. المهم أن توقدوا شمعة ..!!
--
تاسعا: لأن المنظمات المدنية لا يمكن أن تكون بديلا عن الأحزاب:
قد يقول قائل:
لا ياسيدي.. إفتح الله.. أنا بتاع منظمات مجتمع مدني .. وبشغلنا دا بنمارس السياسة!!
صديقي غسان يرى أن العمل الطوعي في السودان أسهم في تعطيل الثورة! يمكنك أن تهاجمه لاحقا في التعليقات لو أردت, المهم أنني أوردت تعليقه لتبيان حالة الإرتباك والخلط التي تسري بيننا جموع المهتمين بالشأن العام, لا يمكنك إلا أن تظهر الكثير من الإحترام أمام الشباب الذين يؤدون الأعمال الطوعية في الخرطوم حاليا.. مجموعات "شارع الحوادث" وطيبة الذكر "تعليم بلا حدود" و "مبادرة نفير" وغيرها أنجزوا وينجزون الكثير في المجالات التي عملوا فيها..
اللافت حقا للنظر أن قطاعات واسعة من المهتمين بالسياسة ساهموا في تلك المبادرات وهو أمر لا إعتراض لي عليه بالطبع, لكنه غزى بصورة ما فكرة أن العمل ضمن هذه المبادرات ممارسة سياسية تكفي تماما للإستغناء عن أحزابنا المترهلة والخاملة, وهو ما أعترض عليه لهذا السبب الرئيس:
- الجمعيات الأهلية أو المدنية لا تمارس السياسة أبدا حسب تعريفها وطبيعتها, وهي ليست مطالبة بذلك البتة كما أن الأحزاب السياسية ليست مسئولة عن تقديم الخدمات المباشرة للجمهور, بالتأكيد هو أمر يمكن أن تشكر عليه لو فعلته لكن دور الأحزاب الرئيس لا يشمل هذا الأمر أبدا.
أقصى ما تستطيع أن تصل إليه المنظمات المدنية في السياسة هو أن تكون جماعات ضغط سياسي لكنها لن تكون أبدا بديلا عن الأحزاب وهذا ليس ما جاءت لأجله.
ف الواقع أن التشابه بين المنظمات المدنية والأحزاب يكمن في هياكل تنظيم العمل وفي تفاعل كليهما مع الجمهور لكن إختلاف الأغراض بينهما كبير, الذي حدث في المبادرات المجتمعية أن الشباب أداروها بدرجة عالية من التنظيم تفتقدها أحزابنا السياسية وهو ما أدى لهذا الخلط الذ صور للبعض أنه يمكننا الإستغناء عن الحزب بالمنظمة. نعم هذه القدرة التنظيمية للشباب تبعث على التفاؤل بأنهم قادرين علي إضافة هذا البعد التنظيمي للساحة السياسة في حال أنشأوا أحزابا أو إنضموا لأخرى موجودة تعاني من مشاكل في التنظيم. لكن سيكون مخيبا للآمال لو ظل الشباب يترفعون عن الأحزاب أو العكس!
--
عاشرا: لأن الفيل سيظل داخل الغرفة:
قد يقول قائل:
إنك تجاهلت الفيل داخل الغرفة, المؤتمر الوطني موجود وهو لن يسمح بحركة حزبية طبيعية ولن يسمح لنا في حالة الإنضمام إلي أحزاب أن نمارس نشاطاتنا ونقيم ليالينا السياسية !!
حسنا ليس لدي أي إجابة عن كيفية تحايلك علي النظام القابض لتسيير نشاطك الحزبي, يمكن أن تناقش هذه القضية لاحقا مع أعضاء الحزب الذ تود الإنضمام إليه.. ما أعرفه فقط هو أن المؤتمر الوطني سيظل جاثما داخل الغرفة ما لم نبني أحزاب قوية, ولن تكون هناك أحزاب قوية ما لم ينضم لها الشباب. فماذا أنتم فاعلون !؟
--
ختاما.. وقبل السلام:
.. ما تقولي أحزابنا ذاتنا ما ديمقراطية أو ضعيفة أو بتاع..برضو إنضم ليها .. زي ما قلنا مافي أحزاب قوية وجاهزة حتنزل علينا من السما.. ياهو دا الموجود ونحنا حنكون مسئولين قدام الأجيال الجاية إنو نعمل ليهم حاجة لو عايزين البلد دي تتقدم.. خشوا الاحزاب دي وغيروا فيها.. ما قدرت تغير تعال مارق وشوف حاجة تانية.. كدا بتكون على الأقل كسبت شرف المحاولة وكسبت إحترامي, ورغم إنو ديل حاجتين أنا ما عندي أدنى فكرة ممكن يفيدوك بشنو.. لكن بتكون كسبتهم و"الجوز ما خسار" !!
فبالله عليكم أي زول مهتم بالسياسة يشوف حزب "مناسب" معاو زي ما الإخوة الفي صورة ديل عملوا وإنضموا لي "اللافتة المناسبة" !!
تحياتي
________________________
من صفحة تدوينات عن مستقبل السودان - مجتبى عامر على فيس بوك
إرسال تعليق