الرئيسية » , » شاكر نوري : نسوة الفيتوري

شاكر نوري : نسوة الفيتوري

تم النشر يوم الأحد، 26 أكتوبر 2014 | 8:13 م

أفردت مجلة الدوحة ملفاً كاملاً عن الشاعر السوداني محمد مفتاح الفيتوري في العدد 84 اكتوبر 2014 ننقل بعضه على صفحات (عين السودان) شاكرين لمجلة الدوحة احتفاءها بشاعر افريقيا
شاكر نوري



غالباً ما ارتبط الشاعر محمد الفيتوري في أذهاننا بأنه شاعر القضايا القومية، ذلك الحامل لروح إفريقيا وزنوجتها المُلتهِبة، وخصوصاً انتقالاته من السودان وليبيا ومصر والمغرب، ما جعل أسطورته أكثر سطوة علينا. وهذا أدى إلى إهمال الحياة الحميمة التي عاشها في شعره وفي حياته. ولو تطرقنا إلى الحب باعتباره محوراً مهماً من محاور شعره، نراه يرتبط بروح صوفية مُلتهِبة هي الأخرى، لذلك جاء هذا الحب في صورته الروحية الأولى، بعيداً عن ملذات الجسد، لأنه يبقى ذلك القروي الذي يكشف عن دواخله الدفينة بكل خجل وبراءة. هذا الحب ارتبط بالتصوُّف، الذي تشرّب به الشاعر، من خلال عائلته ومعايشته، لتلك العوالم التي التصق بها. فقد عاش غريباً بأمسّ الحاجة إلى الامتلاء الروحي، وطرح الأسئلة الوجودية الواحدة تلو الأخرى، دون أن يجد لها صدى الأجوبة.



العاشقة والمناضلة

حضور المرأة في شعره لافت للنظر، ليس من حيث الحجم، بل من حيث الأثر، المرأة المحبوبة كانت أول من يطرق باب قلبه، ليس باعتبارها جسداً، بل روحاً متوثبة، مشرقة، وعاشقة. وسرعان ما وجد نفسه يبحث عن ذلك القرين الروحي. صورة المرأة العاشقة امتزجت بصورة المرأة المناضلة، كما في رسالته الشهيرة «رسالة إلى جميلة»، رمز الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي. وما بين هاتين الصورتين للمرأة التي ينشدها، يقول: 

في قصيدته «إلى امرأة عاشقة»: «وستطبقين جفونك/ المسحورة المتبسمة/ والحب يوقد في سراديب الكآبة أنجمة/ وعلى شفاه الكائنات قصيدة مترنمة/ لا.. لم يكن وهما هواي/ إن الذي حسبته روحك/ قد تبعثر في خطاي/ مازال طفلاً صارخاً/ جوعان يرضع من دماي». 

هكذا تعلّق بالمرأة مثلما تعلّق بالوطن، وقضاياه، وغنّى لها أعمق قصائد الحب. فقد غنّى للمرأة، بحسيّة عالية. حيث كتب: أعيدوا العزف/ إن حبيبتي تصغي/ وبي نهر سماويّ/ من الأشواق لا يفنى.

وفي قصيدة «مُعَيْتِيقَة» يتجلّى سرد حكاية هذه المرأة التي ترتبط بقضية الوطن وكفاحه:« اسمها مُعَيْتِيقَة ... مجرد راعية صغيرة/ لا علاقة لها بكل ما يحدث هناك/ هكذا كانت/ وذات يوم قبل عام 1969/ خرجتْ بأغنامها/ على مقربة من القاعدة الأميركية / غير أنها / لم تعد قط/ فقد مزقت جسدَها الصغير/ قنابلُ قوات الاحتلال التي كانت / تقوم بإحدى مناوراتها الحربية / مُعَيْتِيقَة لم تكن لها قضية ... إنها هي القضية / مُعَيْتِيقَة / أأنتِ هي التي اشتعلَت / ضفائرُ شَعرِها في الحُلم / تحت صواعق الخيل الغريبةِ / يا مُعَيْتِيقة / أكانت نفس أسوارِ الخرائبِ / والمناقيرِ الطويلةِ / والطواحين البدائية؟ / وكان النهرُ/ نهرُ الحزنِ / تغتسل القوافلُ فيهِ / ثم تدور أقماراً محطّمةً / وأشجاراً نحاسية.» 



بين آسيا والنساء البيضاوات

الحب في نظر الفيتوري، جسر يمتد بين عاطفتين، وبين كائنين، وبين ذاتين في انصهارهما الوجداني والحميمي، وكل عاطفة إزاء المرأة هي صادقة، وهي التي تمّده بالإبداع والعطاء، والطاقة الإيجابية،. وقد عرف الشاعر الحب مرات عديدة، وهو يعتبره مقياساً لرجولته، فهو الرجل الملتهب، بخرائط إفريقيا، هذا الزنجي، المندفع نحو شهواته وغرائزه وولهه، كان حبه الحقيقي الأول على حد تعبيره لشاعرة بيضاء لا يذكر اسمها، والفيتوري عامة لا يذكر أسماء نسائه، بل يحوّل جميع النساء إلى امرأة واحدة، هي امرأة الحلم، هي التي علمته العشق وأنضجته رجلاً، وهو لم يتجاوز العشرين من عمره بعد، وفتحت حواسه على معنى الحب. لكن سرعان ما أصبح ذلك الحب مثاراً للشك والغيرة، ولم يكن لها ذنب سوى أنها بيضاء، وهو الزنجي الذي يحمل كبرياءه على كتفه، وكان ذلك الحب ندياً وقاسياً ووحشياً إلى درجة التحدي، وكما يقول في إحدى قصائده من ديوانه «أغاني إفريقيا»: .... فالمسي جسمك الثمين/ فقد أدمته يوماً أظافري المنهومة/ واسألي كل ذرو فيك/ تصرخ: إنني كنت بين يديه غنيمة!.

بعد هذه التجربة القاسية، والموحشة، يقع في حب امرأة سودانية سمراء، هي آسيا، زوجته فيما بعد. كان ذلك الحب هو الأشد عمقاً وخلوداً، لأنه لقاء روحي بالدرجة الأولى، على حد اعترافها، وهو الباحث في تلك المرحلة عن المرأة، رفيقة الحياة، والصديقة والزوجة في آنٍ واحد. ولكنهما في هذا الحب، يستذكران تجاربهما الماضية، لأنه مندمج في عصارة الحياة، بكل ما فيها من أخطاء وأعباء وهموم، لكن هذا الحب أعاده إلى الشعر من جديد، وبث فيه جمرة العشق. وفي هذه المرحلة بدأ يمزج بين المرأة والحب والوطن والثورة، لكنه في الوقت نفسه يخاف على الشعر من المرأة، كما قال في قصيدته «اذكريني يا إفريقيا»: ألهتني تلك المرأة/ أنستني.. فنسيت/ كنا نتحدث عن كيف الكلمات تموت..». 

في حبه نلمح، الحقل الأستوائي وغابات إفريقيا وشتاءات الحزن. ومن هنا انتقل عاطفياً إلى بيروت، حيث التقى الشاعر الراحل محمود درويش، وهناك تعرّف أيضاً على النساء اللبنانيات، دون أن يذكر أسماءهن، لكنه كتب ديوانين من خلال هذه التجارب العاطفية وهما «معزوفة لدرويش متجول» و«ابتسمي حتى تمرّ الخيل». 

هذا الجامح الخيال والمشاعر، لا يقف عند امرأة واحدة، بل يتنقل من واحدة إلى أخرى، لكنه سرعان ما يغيب عن هذه المرأة، إن جمرة الشعر تجعله يتعلّق بين عالمين في العاطفة: الشهوة والتطهّر. يجمع بين شبق الجسد الإفريقي، وبين الغزل الشريف النبيل، ويبقى أسيراً على هذه الثنائية والازدواجية، لأنه ببساطة شاعر الأبنوس الأسود. حبه نوع من الغناء والعشق والاحتراق والثورة. وهو المُحرّك الأساسي لكتابة الشعر. ويرى كل من درس شعره أن مثال المرأة لديه هي «حبوبته»، وهو اسم يطلق على الجدة في السودان التي تصب في أعماقه الأساطير الإفريقية. 

وبين هذه الصورة المثالية وبين صور النساء اللاتي التقى بهن، تبقى صورة المرأة عنده وهماً وشبحاً وطيفاً، وربما هذا ما يجعل شعره مليئاً بالحب حتى لو كان يتكلّم عن الثورة.
شارك الموضوع :

إرسال تعليق

 
جميع الحقوق محفوظة لموقع (عين السودان) الإخباري الوثائقي