الباحث؛بهاء الهادي وغلاف مؤلفه |
أصحاب اللغات القومية لديهم إحساسٌ معيبٌ بالدونية و”إزدرائي” تجاه لغاتهم، لا بد أن يعلموا بأن هذه اللغات تقف مع العربية على قدم المساواة، لأنها لغات تراث ومعرفة وتاريخ..
كم اللهجات الشامية في محطات الراديو تنبيء بأن البلاد على أعتاب ضياع للهوية والإحساس بالإنتماء!!
أثار صدور كتاب (أوضاع اللغات السودانية والتخطيط اللغوي 1898 م- 2009م) للخبير اللغوي د. بهاء الدين الهادي خير السيد، جدلاً مستفيضاً في الأروقة الأكاديمية والثقافية حول راهن اللغات السودانية في إطار الصراع السوداني/السوداني في مستوياته السياسية والإجتماعية والآيديولوجية؛ مفجراً أسئلة عميقة حول أهمية التخطيط اللغوي وخطورته على التماسك القومي والإندماج الوطني، وحول سؤال اللغات القومية وما يتفرع عنها إستفهامات شائكة كان هذا الحوار.
نظام التعليم
أثَّر تغيير السلم التعليمي المتكرر على العملية التعليمية سلباً؟
السلم التعليمي لا ينفصل عن الإقتصاد والسياسية وهي إحدى المعضلات الكبرى في هذه البلاد، السلم القديم (6:3:3) كان جيداً ومعمول به في أنحاء عديدة بالعالم، ومع مجي الإنقاذ وضمن مخطط “إعادة صياغة الإنسان السوداني” تم تغيير السلم الذي أصبح يضم مراهقين مع أطفال في طابق أو “حوش” واحد، وهي من المحاذير التربوية الخطيرة، ولم تسبق هذا السلم دراسات أو بحوث، وحتى المناهج التي صدرت لم يخطط لها وهي “غير علمية” بالمرَّة. والكارثة الأكبر في نظري كانت إلغاء دور بخت الرضا وإدارة المناهج في وزارة التربية تم تجفيفها، وإذا علمنا بأن الإنسان هو أساس ومحور التنمية في أيَّ بلد، فإنه يصح بأن تكون هذه العملية التعليمية التي تديرها الإنقاذ تهدف إلى إخراج إنسان مغبش الوعي وسهل الإنقياد.
نظام التعليم
أثَّر تغيير السلم التعليمي المتكرر على العملية التعليمية سلباً؟
السلم التعليمي لا ينفصل عن الإقتصاد والسياسية وهي إحدى المعضلات الكبرى في هذه البلاد، السلم القديم (6:3:3) كان جيداً ومعمول به في أنحاء عديدة بالعالم، ومع مجي الإنقاذ وضمن مخطط “إعادة صياغة الإنسان السوداني” تم تغيير السلم الذي أصبح يضم مراهقين مع أطفال في طابق أو “حوش” واحد، وهي من المحاذير التربوية الخطيرة، ولم تسبق هذا السلم دراسات أو بحوث، وحتى المناهج التي صدرت لم يخطط لها وهي “غير علمية” بالمرَّة. والكارثة الأكبر في نظري كانت إلغاء دور بخت الرضا وإدارة المناهج في وزارة التربية تم تجفيفها، وإذا علمنا بأن الإنسان هو أساس ومحور التنمية في أيَّ بلد، فإنه يصح بأن تكون هذه العملية التعليمية التي تديرها الإنقاذ تهدف إلى إخراج إنسان مغبش الوعي وسهل الإنقياد.
ولكن هنالك كم مقدر من كليات التربية تم إفتتاحها، في ذات السياق؟
هذه الجامعات أصبحت كـ”النبت الشيطاني”، والتعليم ليس بالكم إنما بالكيف. سياسة التعليم العالي أيضاً سياسة خاطئة وغير علمية وإنظر إلى حال الخريجين اليوم، التوسع الأفقي في التعليم كان خصماً على الكفاءة السودانية، وحالياً أصبحت شهادات بعض جامعاتنا غير مبرأة للذمة في عدد من دول العالم، لأن هذه الجامعات تخرج أعداداً فقط من الطلاب، لا أكثر. ومن العادي جداً أن تجد رئيس قسم بجامعة ما وهو يحمل درجة الماجستير فقط. فيما يهاجر ذوو الكفاءات والخبرة لأنه أصبح لا محل لهم من الإعراب من قبل السلطة التي درجت على تعيين أهل الولاء، وبالتالي لا يستطيع أهل الكفاءة التعاطي مع هكذا أوضاع، والحل في نظري يجيء عبر النضال الديمقراطي القوي والرشيد للخروج بسياسة تعليمية وتربوية على يد تربويين وكفاءات تعليمية موجودة للأسف خارج البلاد، حالياً. وتساهم في نهضة البلدان المقيمة فيها.
الصراع اللغوي
اللغتان العربية والإنجليزية ظلتا على الدوام ضحايا الإستقطاب السياسي والآيديولوجي؟
يوجد فهم مغلوط بالنسبة لي كباحث، في موضوعة اللغة العربية في السودان، حيث يتم التعامل معها مثلما يتم بالبلدان العربية، وهذا وضع مغلوط. لأن اللغة العربية موجودة بالسودان قبل دخول الإسلام، وصحيح بأننا نتعامل معها بما أن غالبية الشعب “مسلمون” لكنهم لا يفرقون بين اللغة والدين، بأعتبار أن الأولى ماعون الثاني. لكن لو نظرنا للأمر بصورة علمية سنجد أن العربية مثلها وأي لغة أخرى في السودان، ورغم أن العربية تعتبر “لغة قاتلة” للغات الأخرى، لكن وضعها في السودان متدنٍ جداً –وأنا هنا أتحدث عن الفصحي- بين أكثر من (100) لغة في السودان، تعيش على قدم المساواة والأهلية. وبالنسبة للعربية ورغم إدِّعاءات النظام الإسلاموعروبية، فإنها في وضع سيء جداً.
[مقاطعة] ولكنها لغة مهيمنة سياسياً وذات دفع فيما يلي تحديد الهوية!؟
أنا أعيش الآن في طوكيو ولا أستطيع القول بأنني عربي، وسط “العرب الأقحاح”، أنا أنظر لنفسي كنتاج لـ(700) سنة من التزاوج بين العرب والنوبة، وحتى على المستوى الجيني (DNA) فإن العرق العربي إنتهى وإندثر. وبالنسبة لكونها لغة المال والإقتصاد ومعتمدة رسمياً فذلك يعود لظروف غلبة محددة.
أين إذن يمكننا وضع الصراع اللغوي بين العربية واللغات القومية الأخرى؟
خذ مثالاً، الأصوات التي كانت تطالب بإبعاد العربية وتبني الإنجليزية والسواحيلية في جنوب السودان “قبل الإنفصال”، ستجد بأنها وعقب الإنفصال تعاملت مع العربية كلغة تخاطب ” Lingua franca” مثل لحظة حديث السيد “باقان أموم” في إعلان الإستقلال بـ(عربي جوبا) بغض النظر عن كونها لغة و”وعاء” لدين أو ثقافة أخرى. هنالك شد وجذب حول الموضوع منذ الإستقلال على خلفية هل نحن عرب أم أفارقة أم هجنة؟. ولم تحسم هذه المسألة حتى الآن. وفي نظري لا بد من تصحيح نظرة المتحدثين باللغات القومية السودانية تجاه العربية بأنها لغة إستعلاء وتسيُّد ومفروضة عليهم وتآكل لغاتهم وبالتالي هوياتهم، وصحيح بأنها لغة “من يرسلون الإنتنوف لقتل الآخرين”. وأعني بتصحيح النظرة أن تكون تجاه الإعتراف بصراع اللغات كأمرٍ حيوي ولأنه مشروط بعدم تدخل السياسات والآيديولوجيات الخاطئة والهويات الزائفة، وهو مكمن الخطر على المشهد اللغوي المتنوع وواسع الثراء في السودان.
التخطيط اللغوي
ما هي الجملة التي إنبنى عليها كتابك عن “اللغات السودانية والتخطيط اللغوي”؟
لا يوجد تخطيط لغوي في بلادنا. هنالك سياسة لغوية، وفي تعريفها العلمي هي ذات بعدين، من الأسفل إلى الأعلى، والعكس. من أعلى بمعنى خطاب السلطة كتصريحات الرئيس في القضارف 19 ديسمبر 2010 قبل سنوات “البلد ده عربي”، وهي بهذه الطريقة سياسة مفروضة بدون دراسات أو تخطيط، والسياسة اللغوية الناجحة في العالم هي التي تقوم على أكتاف علماء الإجتماع واللغات والسايكولوجي والأنثروبولوجيا، يخططون لها من الأسفل “من قاعدة المجتمعات” ومن ثم تعلن كسياسة من أعلى. وفي بلادنا صراع الهوية منذ فترة الإستعمار كان خصماً على اللغة أيَّاً كانت، قومية أم عربية. وأعتقد بأن إتفاقية السلام الشامل 2005م خاطبت هذه الهموم عندما إعترفت “ولأول مرة” بأن اللغات السودانية غير العربية، لغات قومية. ومع ذلك لا يكفي أن نقول بأن اللغة العربية “نفسها” لم يخطط لها جيداً وليست لديها سياسة لغوية جيدة.
الكثير من بنود الدستور والإتفاقية في جانب اللغات لم يتم تفعليه؟
نعم نص الدستور على أن اللغات القومية يجب ترقيتها ولا يجوز التمييز ضد اللغات القومية، ونص كذلك على مجلس قومي للغات. هي بنود كثيرة ولكن لم يتم تطبيقها شأن الكثير من بنود الإتفاقية الأخرى، في ظل وجود لغات قومية في طور الموات “الإنقراض”. وبإنفصال الجنوب نحن لم نفقد جزءاً عزيزاً من الأرض وحسب، بل كم مقدر من اللغات غير الموجودة في العالم إلا في أفريقيا (جنوب السودان وجبال النوبة)، فيما عدا لغة واحدة موجودة في جنوب أفريقيا وهي اللغة “الخوسيانية” ضمن أسرة اللغات النيلية الصحراوية.
الإحتقانات الإجتماعية أصبحت تتوسل قناة الإعلام كوسيلة لإدارة الصراع لغوياً؟
اللغة تمظهر للإجتماعي والإجتماعي تمظهر للسياسي، هي دوائر متداخلة ومتصلة، وهي إحدى تمظهرات الصراع السياسي الذي أضحى في أبشع صوره الإثنية، والصراع الثقافي ساحته اللغة، ولا بد من ذكر أن الإخوة الجنوبيين كانوا دوماً واعين بلغاتهم والبعد الثقافي الموجود في الصراع منذ مؤتمر الرجاف 1928 وإتفاقية أديس أبابا 1972 ونيفاشا 2005م. وحالياً الصراع الثقافي الموجود إمتداد لما هو سياسي وعسكري وإجتماعي، وهو من الخطورة بمكان من حيث تهديد بنية البلاد بأكملها. وبالنسبة لأجهزة الأعلام.. فإن كم اللهجات الشامية واللبنانية التي يمكنك سماعها في محطات الـ(FM) على الراديو تنبؤك بأن البلاد على أعتاب ضياع للهوية والإحساس بالإنتماء. فقط يحمد للإذاعة القومية إفرادها لمساحة صغيرة جداً إسمها “اللغات السودانية”. مع أن تأريخ الإذاعة كان يضم في يوم من الأيام “الإذاعات الموجهة” من خريطة البث العام، كانت تبث باللغات القومية، ومن المهم الوقوف على أهمية هذه البرامج، لأن إهمال اللغات القومية السودانية خطر يؤدي إلى إضعاف إنتماء القوميات والإثنيات إلى البلد الأم وهو أكبر مهدد للوحدة والتماسك الوطني.
المسألة السودانية
اللهجات المحلية السودانية، خصم على اللغة العربية أم إضافة؟
إضافة في حالة فتح المجال أمام كل اللغات لتتصارع فيما بينها دون تدخل، وفتح المجال الرسمي والإعلامي لها جميعاً لتتنافس بصورة حرة ومتكافئة، في علم اللغة لا توجد لغة أجدر من الأخرى، لكن أصحاب اللغات القومية لديهم إحساس معيب بالدونية و”إزدرائي” تجاه لغاتهم، لا بد أن يعلموا بأن هذه اللغات تقف مع العربية على قدم المساواة، لأنها لغات تراثِ ومعرفةٍ وتأريخ. العالم الآن يشتري التنوع، خذ مثالاً دولة قطر! فالآحادية الثقافية لا تثري حياة البشرية، وهناك حقيقية أن مناهج تعليم اللغة العربية وطرق تدريسها في إسرائيل أكثر تقدما ًوعملية من أكثر الدول العربية تبجحاً بالعروبة، كمثال آخر. وببساطة مسألة اللغات ترتبط بإثراء التواصل الإجتماعي على مستوى الموروث الثقافي والتراث والفلكلور والخبرة الحياتية وغيرها..
أهمية مبحث اللغات في وضع كالحال السوداني الماثل؟
شأن اللغات شائكٌ معقدٌ، وإذا تم علاجه سيعالج الشأن الثقافي الذي هو مفتاح حل الإشكال الإجتماعي، وللأسف العالم نبذ القبلية وميراث التخلف، فيما تقهقرنا نحن إلى الوراء. واللغات هي بذرة لتوحيد أو تفرقة، وأمر علاجها يجب ألا يترك للدولة وحسب بل هي مسؤولية المجتمع المدني والناطقين بها من القوميات المختلفة، ومن الجيد أن الأخوة (النوبيون) في الشمال قد تمكنوا من إدخال محارف اللغة النوبية في لوحة مفاتيح “KEY BOARD” الكمبيوتر في كندا، وأتمنى أن تنداح هذه الدائرة لتشمل باقي اللغات السودانية. كذلك من المهم الوقوف عند توصية اليونسكو بأن يكون تعليم الأطفال في السنوات الثلاث الأولى من التعليم عبر اللغات القومية الأم بدلاً عن التعليم بلغة قسرية تكون غريبة على مجتمع الطفل، كما هو حادث الآن في شمال السودان بالمنطقة النوبية.
(نقلا عن الميدان-18/9/2014/حاوره عادل كلر)
إرسال تعليق