الشاعر موسى أحمد مروح |
فالذي يريده السودانيون في نظري هو عكس ما يقول السيد البروفسور، وهو حوار ينبني على انتظار جميع اللاعبين، (وأظن أن ذلك ما قاله أو قصده البروفسور)، وذلك عبر الاستماع المُخلِص لما يمنعهم من الحضور، وبذل كل ما يمكن لتسهيل حضورهم؛ هو إذن حوارٌ لا يستثني أحداً، بما في ذلك المؤتمر الوطني، حتى تأتي نتائجه ملزمة للجميع، وملهمة لقدراتنا كأُمّة على الاعتراف بأخطائنا وتجاوزها، وحتى يستطيع السودانيون أن يعرفوا مَن مِن القوى السياسية المشاركة فيه سيرقى إلى مستوى المسؤولية الوطنية الجسيمة في مرحلة ما بعد الحوار، ومن منها سيصر على إعادة البلاد إلى مربع الأزمة.
كنت أود أن أكون أكثر تفاؤلاً في هذا المقال، بأن أظن بالسيد البروفسور وحزبه الظن السياسي الحسن، ذلك لأن المناورات في الحوار والتظاهر بالتعنت قد يكون مما تعوَّد عليه الناس في أدبيات المفاوضات التقليدية. فربما كان البروفسور يريد بتصريحه هذا تهيئة الساحة العامة، واستباق النتائج النهائية للحوار حتى تأتي في صالح حزبه، وهو أمر مفهوم، في ظاهره، لولا أن بلادنا تواجه أزمة وجودٍ لا ينبغي أن يكون فيها مجال للمناورات السياسية. نعم كنت أود أن أكون متفائلاً، فبلادنا لا تحتاج إلى المزيد من المتشائمين. ولكن اللغة التي تحدث بها البروفسور نفسه في مؤتمره الصحفي عن خارطة الطريق لا تترك للمرء مجالاً للتفاؤل. فهي تُرجعنا مباشرة لتاريخ الإنقاذ الطويل في الحوارات الفاشلة التي يتلهّى بها الإعلام وتلوكها مجالس المدينة ردحاً من الزمان؛ الحوارات التي انتهت بتقسيم السودان وإشعال الحروب في المزيد من أجزائه المتبقية، وتدوير الأسماء والزعامات السياسية في دولاب الإنقاذ، بين الحُكم والمعارضة، تحت مسمَّى اتفاقيات السلام، التي تُوقَّع وفي مواثيقها بذرة التفريخ لحروبٍ قادمة، وبين طياتها فصلٌ جديد من التأريخ لفشلنا كدولة، بعد كل مؤتمر يُعقد وينفضّ، بينما تظل دورات مسرح العبث هذا تدور إلى ما لانهاية، وكأننا فقدنا القدرة على السيطرة على مصيرنا ومستقبلنا، وانعدمت فينا روح إبتداع الحلول السياسية القمينة بالنجاح.
إذن فليعذرنا السيد البروفسور إن ربطنا بين تاريخ حزبه الطويل في المناورات المعروفة نتائجها سلفاً وبين ما يقول هو الآن في شأن الحوار الوطني. فالعقلانية تتطلب اعتماد الشواهد وجرد كتاب التاريخ الذي كتبته الإنقاذ بنفسها حتى نستطيع التفريق بين أفعال الفاعلين وأقوال القائلين. وجواز الحكم على كتاب هذه الطبعة الجديدة-القديمة من حوارات الإنقاذ من عنوانه فقط ليس هو نوع من التجني على البروفسور وحزبه ومبادرتهم للحوار، وإنما استخلاص منطقي للأسباب والنتائج؛ هو دعوة للحفاظ على موارد البلاد ووقتها وأعصابها من فشلٍ متوقع لا محالة من هذه المبادرة التي لا تُبادر، والحوار الذي لا يُحاور. هي دعوة لتلافي الفشل قبل أن يحدث، ذلك لأن خريطة المؤتمر الوطني هذه للخروج من الأزمة ستقود بالضرورة إلى الدخول في تلك الأزمة مجدداً، لأنها لا تقوم على أي شيئ جديد يميزها عن سابقاتها، ولذلك لا يُعقل أن نتوقع منها ما ليس بها.
ولكن ماذا نفعل بعد كل هذا؟ هل نكفر بالحوار السلمي كمخرج أساسي لأزمات السودان العويصة؟ هل نحمل جميعنا السلاح لنحارب الدولة التي ننتمي إليها، ونساهم بذلك في الدفع بالسودان مع الإنقاذيين إلى هاوية العدم؟
الحقيقة أن الكفر بالتغيير السلمي سيكون خطأ استراتيجياً، لأن المشكلة ليست في سلمية التغيير، وإنما في فشلنا في إبداع وسائل سلمية أخرى غير الانتفاضة الشعبية، وهذه قصة أخرى. وواضح أن المجموعة الحاكمة من أهل الإنقاذ من جهة، وبقية القوى السياسية المؤثرة من جهة أخرى، ليسوا على نفس الصفحة بخصوص الحوار، هذا إن شئنا التبسيط والتمدّن في الحديث. فجميع قوى المعارضة التقليدية والحديثة والشبابية والعسكرية، رغم أزماتها الأخرى الكثيرة، إلا أنها حسمت أمرها بشأن القبول بالديمقراطية كوسيلة وحيدة للوصول إلى الحكم. القوة السياسية الوحيدة المؤثرة المتخلفة عن هذا الركب هي المؤتمر الوطني الحاكم. ومعروفٌ أن موقف المؤتمر الوطني الرافض للديمقراطية الحقيقية ليس هو موقفاً مبدئياً أو أخلاقياً منها كوسيلة للحكم، مما يُخرج ذلك الموقف من دائرة الأيديولوجيا ويجعله، نظرياً، قابلاً للتغيير. وإنما هو موقف نفعي يتغير بتغيّر موقع الحزب من السلطة. وهذه النقطة باختصار هي مركز الأزمة السياسية السودانية، إذ لن يكون هناك حوار حقيقي وتغيير سلمي ما لم ينضم المؤتمر الوطني، وهو الآن أكبر قوة سياسية في البلاد بحكم الواقع، إلى بقية أهل السودان، ويقبل بالديمقراطية قبولاً خالصاً لا رجعة عنه.
هذه هي المشكلة التي ينبغي للسيد البروفسور غندور أن يقيم لها المؤتمرات والحوارات الوطنية. فأزمة السودان سببها أزمة المؤتمر الوطني والإسلاميين السودانيين المتمثّلة في فشلهم في مواصلة البناء على ريادتهم للتغير السلمي الديمقراطي مع بقية القوى السودانية في أكتوبر وفي أبريل. والحوار المطلوب ينبغي أن يكون أولاً بين الإسلاميين الحاكمين أنفسهم، على شكل نقد عميق ومخلص للذات، ينتصرون فيه للديمقراطية، ويكفُرون على إثره بالدكتاتورية، وينضمّون بعده إلى ركب الحرية مجدداً ولا يفارقونه بعد ذلك.
هذا هو الحوار المطلوب منهم، حوار بينهم هم أولاً، لأنه ضروري لأنجاح ما يليه من حوار وطني أشمل. وكل حوار غير ذلك من شاكلة ما يدعو إليه الآن البروفسور غندور وحزبه هو نوع من إضاعة الوقت وتعقيد أزمة تتعقد أساساً كل يوم. وظني أن العاقلين من أهل السودان لن يرفضوا الحضور إلى حوار وطني حقيقي يُخرج بلادهم من أزمتها المستعصية. وأظن كذلك أن جميع قضايانا الأخرى المهمة، مثل العدالة لضحايا الحروب وحقوق الإنسان والفساد والانقلاب على الدستور وغيرها، يمكن حلها إن وُجد لها القادة المخلصون. فأمامنا أمثلة مناسبة في محيطنا الإفريقي وفي المجتمع الدولي من حولنا. ولكن المؤتمر الوطني يريد أن يردّ لنا البضاعة نفسها، رغم كسادها خلال ربع قرن من الزمان، ذلك لأن المؤتمر الوطني غير راغب أو غير جاهز أو غير قادر على أن يكون جزءاً من الحل.
إرسال تعليق