رواية تنحاز إلى مجتمع المهمشين
صحيفة الرأي - هيا صالح
تتناول رواية «الجنقو مسامير الأرض» للكاتب السوداني عبد العزيز بركة ساكن، عالمَ «الجنقو»؛ وهم الطبقة العمّالية في السودان التي تنتشر غالباً في المناطق الحدودية، وهي طبقة تعاني الظلمَ والاضطهاد وشظف العيش وانعدام الرعاية، رغم أنها تمثل دعامة قوية ومهمة للاقتصاد والتجارة.
ولعل حالة التهميش التي يعيشها «الجنقو»، هي ما تجعلهم يقلّدون الأشياء المحيطة بهم، بحيث تَبرز هذه الموجودات إلى الواجهة بينما يختفون خلفها؛ فهم في هيئاتهم ولباسهم وطريقة عيشهم يتشبهون بالأدوات التي يتماسّون معها في عملهم اليومي، إذ يلفّون أحزمة الجلد الصناعي على خصورهم ليبدوا مثل «كُلّيقة السمسم» المحزومة جيداً. بينما تتغير أسماؤهم وتتبدل على مدار العام تبعاً لطبيعة العمل التي يقومون به: ف»الجنقوجوراي» يُسمّى «كاتاكو» في الفترة ما بين ديسمبر إلى مارس، حيث يعمل في مزارع السكّر، ويُسمّى «فَحامي» في الفترة ما بين إبريل ومايو، حيث يعمل في تنظيف المشروعات الجديدة أو المهمَلة من الأشجار، ويصنع الفحمَ النباتي من سوقها وفروعها.
منذ مستهل الرواية يبدو الحديث لا عن طبقة بشرية تمارس وجودها الإنساني الطبيعي، وإنما عن «مخلوقات» غرائبية هلامية الوجود مهمّشة محتقَرة ومتروكة من دون أدنى اهتمام. إنه مجتمع كامل يبدو في إيقاع حياته الجماعية فرداً واحداً.
تنهض الرواية عبر ساردٍ بضمير الأنا، يبدو على تواصل مع عالَم «الجنقو» (بحكم أن أفراد عائلته كان معظمهم من هذه الطبقة)، وهو عالَم مصبوغ، لشدة واقعيته، بالفانتازيا والغرائبية، ومزدحم بالخرافات والأساطير والحكايا التي لا تنتهي. تدور الأحداث في ولاية القضارف القائمة على الحدود الأثيوبية السودانية، حيث يعيش «الجنقو» في منطقة تسمّى «الحلّة»، يواجهون واقعهم المرّ بما يستلّونه من مباهج صغيرة تُبقي على جذوة الأمل فيهم ليواصلوا مشوار الحياة، وتتمثل هذه المباهج بطقوسهم المرتبطة بالأرض والمرأة ومواسم الحصاد والمناسبات الاجتماعية كالزواج والختان والطهور، التي يتوقف عندها الروائي بكثير من التفاصيل التي تفتح ذهن المتلقي على عالم ثريّ وغني ومتنوع قد يسمع عنه أو يتعرّف عليه للمرة الأولى:
«عندما يكون السمسم جيداً فتياً مرصوصاً كالدُّرَر على ساق حمراء شامخة، يُجْبر الجنقوجوراي على الانحناء لحصاده، حينها يصبح الحصاد مهرجاناً من الرقص، يغنّي الجنقو لحناً واحداً ثرياً حلواً على إيقاع ضربات المنجل، خشخشة ربط الكُلّيقة ورميها بالخلف» (ص 79). وفي سهراتهم يمرحون ويهتفون بصوت واحد: «نحن الجنقو مسامير الأرض» ومن هذه العبارة الشهيرة لديهم جاء اسم الرواية.
يختار الكاتب لبناء مداميك روايته التي مُنعت من التداول في السودان رغم فوزها بجائزة الروائي الراحل الطيب صالح سنة 2010، بناءً مركباً متشابكاً، إذ تكشف البنية السطحية للرواية عن معاناة الطبقة العمالية ومجابهتها لواقعها، بينما يلجأ الكاتب في البنية العميقة إلى بناء متشظًّ يتواءم مع ثيمة التفكك القارّة في مجتمعات محلية لا تعرف مساراً واضحاً لحياتها التي تقضيها على «الحدود»، وتعاني من تقلبات وتبدلات لا تنتهي، منها ما يرتبط بالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ومنها ما يرتبط بمواسم المطر والزراعة والحصاد، وبالتالي فهي تجمعات غير مستقرّة على الإطلاق، وتعيش متواليات من التحولات الحياتية التي تقودها في النهاية إلى ما يسمّى «شجرة الموت»، وهي شجرة كبيرة في منطقة «الحُمرة» يذهب «الجنقوجوراي» عندما يهرم أو يمرض إليها بمفرده، أو تقوده صاحبة البيت إليها، ويظل تحتها، يقتات على ما يقدمه له الآخرون من طعام، حتى يموت!
وبالنظر إلى مجتمع «الجنقو»، فإن كلاًّ من شخصيات الرواية شهدت سلسلة من التقلبات التي قادتها في النهاية إلى مستقرّها «الحلّة»؛ ذلك المكان الذي يجمع سيلاً بشرياً من منابع مختلفة، لكلٍّ منهم قصته ومعاناته وأحلامه ومباهجه التي كانت فرديةً قبل مجيئه إلى هذا المكان، ثم أصبحت جماعية، لذا فإن الرواية تؤكد أن من يعيش في هذا المكان لا يمكنه مغادرته؛ إنه مكان شبيه بالأماكن الأسطورية التي تُغري القادم إليها بالدخول، ليجد بعد ذلك أنه في متاهة قدرية لا يعرف فكاكاً منها:
«أيّ جنقوجوراي يأتي إلى هنا للعمل موسماً واحداً فقط، ويقول لنفسه إنه بعد هذا الموسم سوف يعود لأهله، يُبْسط أمه وأخوته ويتزوج، فيعمل موسمه الأول»، لكنه يُبذر نقوده في «المريسة» والشرب، «إلى أن يبلغ من العمر عتياً، فيمرض ويموت» (ص 92).
ف «ود أمونة» الذي يبدأ الساردُ وصديقه رحلتَهما في «الحلّة» معه، يعيش طفولته في سجن «القضارف» مع أمه التي تبذل جهدها في حمايته من مجتمع السجن، لكنها وبعد أن يتعرض لمحاولة اغتصاب من قِبَل طباخ السجن، تقتنع بأن تودعه عند «عازة»، وهي سجينة أخرى انتهت محكوميتها، ليعيش معها، لكن «عازة» تعود إلى السجن بعد أن ترتكب جريمة دفاعاً عن «وَدّ أمونة» الذي يؤويه بعد ذلك بيتُ «الأم أدي» في «الحلّة». أما أمه فيحيط الغموض بقصتها، إذ تردد هي أنها هربت مع أسرتها من أقاصي الغرب، بينما يؤكد الرواة أنها هربت بمفردها ولحقتها أخَواتها.
جميع الأحداث في الرواية تبدو موضعاً للشك، ولا حقيقة فيها أو معلومة يمكن الركون إليها، حتى «ود أمونه» الذي تقنعه أمه أن والده يَمَنّيٌّ تركهما وعاد إلى بلاده، يكتشف من آخرين زيفَ هذا الادعاء، وأنه غير معروف الأب. أما طباخ السجن الذي حاول الاعتداء على «ود أمونة» فتتناقل الرواية أنه ما يزال يعمل في السجن، غير أن «ود أمونة» يؤكد في روايته أن الطباخ مات بعد الحادثة بسنة، على إثر لسعة ثعبان ظهرَ له في مخزن البقوليات.
الرواي نفسه الذي قادته إلى «الحلّة» حالةُ الضياع هو ورفيقه بعد أن تمت إحالتهما «للصالح العام قبل خمس سنوات» (ص 9)، يعزز هذه الشكَّ الذي هو سمةٌ لصيقة بعالم الرواية المفكَّك، حيث يؤكد بين فينة وأخرى أن ما يرويه من أحداث تَحَصَّل عليها من رواة وحكاة عدّة، وأنه يعيد إنتاج هذه الروايات بعد بعض «التدخل، وقليل من التأويل والتحوير والالتفاف والتقويم والإفساد أحياناً» (ص 14). وعندما تحكي «ألم قشي» -الفتاة التي يعشقها الراوي ويتزوج منها- حكايةَ والدة «ود أمونة» من وجهة نظرها، يقول الراوي مشككاً بصدق الرواية: «أخذتْ تحكي لي القصة كما تظن أنها الحقيقة، وقاطعتُها مرات عدة، محاولاً محاصرتها لكشف تناقضٍ قد يبدو لي هنا أو هناك في الحكاية، لكنها مضت في حكيها بثبات وثقة العارف المتأكد، ثقة مَن شافَ، ولو أنها وغيرها لم يروا شيئاً» (ص 100).
وكما للشخصيات حكاياتها، فإن ل»الحلّة» أيضاً حكايتها، فبحسب ما تروي «الصافية» –وهي امرأة «مسترجلة»- فإن جدتها أسست «الحلّة» التي كانت منطقةً تعيش فيها الضباع والقرود والجن، ومكاناً لسجناء «يهربون ب(الفرو) من سجن الحُمرة بأثيوبيا، شياطين يسكنون ويتزاوجون مع البشر، بشر يتحولون إلى حيوانات وغربان» (ص 85). وبحسب رواية أحد العجائز فإن تسعة وتسعين بالمئة من سكانها «ليست لهم أجناس. ليست لهم قبائل، كلهم مولودون، أمهاتهم حبشيات بازاريات، بني عامر، حماسينيات، بلالاويات، أو أي جنس آخر» (ص 139) وكذلك آباؤهم.
وعالَم «الِحلة» بخليطه المكاني والبشري «العجيب»، نموذجٌ مصغَّر لمجتمع يعاني الاضطراب والقهر والتهميش، ويُذكّر بواقع «العشوائيات» والمجتمعات الهامشية التي تنمو هنا وهناك طلباً للعيش وبحثاً عن أبسط مقومات الحياة؛ وهي مجتمعات موسومة على الأغلب، بحكم تكوينها، بالتحلل الأخلاقي والتفسخ والارتباك.
تشهد «الحلّة» حالةً من التحول الاقتصادي، حين يستورد البنكُ حاصداتٍ آليةً حديثة، تقوم بالعمل الذي يؤديه «الجنقو» من دون الحاجة إلى أيدٍ عاملة، ثلاثة يقودونها وعامل يؤدي أعمال العتالة، وقد جاءت هذه الماكينات في وقت ينتظره «الجنقو» طويلاً، وهو موسم حصاد السمسم: «افتُتح البنك في وقتٍ حُسب بدقة ليواكب الموسم الزراعي لهذا العام. وجاء الموظفون ونزلوا في ضيافة شركة الاتصالات» (ص 202).
إن التحول الذي يُحْدثه البنك في «الحلّة» يطال المكان وساكنيه، ويربك العالَمَ الصغير الذي بُني بعَرَق العمال وتعبهم ليسلبهم لقمةَ عيشهم وأبسطَ مباهجهم، كما يتوغل على أراضي القبائل الرعوية من خلال رشوة زعاماتهم أو تجاوزهم، وتُختتم الأحداث في الرواية بالحريق الهائل الذي يمحي «الحلّة» عن وجه الأرض، ويحرق بعض السكان، فيما يلجأ بعضهم الآخر، ومنهم الراوي الزوج الثاني ل»ألم قشي»، إلى الحدود الأثيوبية، أما «ألم قشي» فتهرب إلى أهل زوجها الأول وتعود إلى طفلتيها اللتين أنجبتهما منه.
وإذ ذاك، تندلع شرارة التمرد على ممارسات البنك التي زادت غنى الأثرياء على حساب الفقراء، لتأتي بعدها الثورة التي قادها «الجنقو» ضد البنك بعد أن رفض التعامل معهم: «كان واضحاً أن ثمة أمراً قد تم ترتيبه وأن اتفاقاً ما قد وقَعَ بين العاملين، كانت وجوههم السوداء والبنية الغبشاء، التي يبدو عليها ما تبقى من ليلة أمس واضحاً جلياً، تلك الوجوه المرحة المتسامحة غير المبالية، تبدو اليوم أكثر خطورة وجدية» (ص 102).
لقد تغوّل البنك على حياة هؤلاء الذين كانوا يعرفون كيف يديرون أمورهم ويلبّون متطلبات عيشهم بأدواتهم البسيطة وأموالهم القليلة، لكن استجلاب البنك لآلاته الزراعية العملاقة وشركة الاتصالات والوافدين المتعلمين من المدن أضرت بمجتمع «الجنقو» الذين وجدوا أنفسهم مطالَبين بالتأقلم مع نمط جديد ومعقّد من السلوك، وبدلاً من أن تُحسّن هذه التغيرات واقعهم، صارت وسيلةً من التهميش والظلم والإفقار.
البطولة في الرواية تتقاسمها الشخصياتُ، والأحداث، والأمكنة على السواء. ويؤدي الراوي؛ الزوج الثاني ل»ألم قشي» -المرأة التي يقع في حبها وينجب منها- دورُ الناقل للأحداث بضمير الأنا، ورغم أن هذا الضمير السردي يبدو محدوداً في رؤيته بحكم أنها في النهاية رؤية ذاتية، إلا أن الكاتب نجح في توسيع مدار هذا الراوي، الذي لم يحتكر السرد مطلقاً، بل ترك للشخصيات فرصة لأن تحكي قصتها كلٍّ من وجهة نظرها الخاصة، ما أسهمَ في تعدد وجوه الحكاية الواحدة وتشعّبها في غير مسار.
هذه التقنية؛ الحكي، هي الأسلوب الأمثل للتعبير عن واقع مجتمع «الجنقو»، إذ إنهم يقضون نهارهم بالعمل الجماعي، ويتحلّقون للسمر في المساء، ويجدون في سرد الحكايا ما يؤنسهم ويسرّي عنهم، ونظراً لإدراكهم العميق بأنهم جماعات مهمّشة لا تملك السلطة أو المال، يحاولون الاستعاضة عن ذلك بأن يجعل كلُّ واحد منهم من نفسه بطلاً؛ وحده من يمتلك حقيقة الحكاية التي تتجلى في ما بعد بوجوهٍ عدة تختلف باختلاف وجه نظر الحكّاء أو الحكّاءة.
واستيفاءً لمتطلبات تقنية «الحكي» تلك، قامت الرواية على مستويَين من اللغة؛ لغة السرد المنتقاة والقادرة على تحليل العلاقات والأحداث وما يمور تحت السطح، ولغة الحوار الدارجة أو المحكية التي تعبّر عن واقع مجتمع «الجنقو» الزراعي الذي تتحكم فيه الخرافة والأساطير، كما تعبّر -من خلال تفاوت اللهجات- عن ذلك الخليط البشري القادم من كل مكان ليعيش في «الحلّة». نجد مثال ذلك شخصية تقول في حوارها: «أنت ماك راجل؟»، بينما تقول أخرى التعبير نفسه بشكل مختلف: «أنت ما راجل؟»، وتردده ثالثة بشكل يختلف عن السابقَين: «أنت مش راجل؟».
تُختتم الرواية بمحاولة الراوي الالتقاء بزوجته «ألم قشي» التي تشارف على إنجاب طفله، غير أنه لا يتمكن من عبور الحدود الأثيوبية باتجاه «همدائييت» حيث تقيم. وفي خضم بحثه المحموم عن وسيلة ليلتقي بها، يتعرف على «إسحق المُسلاتي» الذي يؤكد له أن «ألم قشي» جنّية، وأن من يعاشرها من البشر لا يمكنه أن يرغب في امرأة أخرى، وأنه رأى «ختم الجن» على شكل خاتم سليمان في أسفل ظَهرها.
يُعْرِض الراوي الذي خَبرَ «الجنقو» وما يتداولونه من أساطير، عن المُسلاتي غيرَ مصدّق لما أخبره به، ويلجأ للجمعية الدولية للصليب الأحمر من أجل مساعدته للالتقاء بزوجته وطفله، ويكون له ذلك، وعندما يلتقي ب»ألم قشي» يحمل طفلَه المسمّى «محمد» ويتأمّل ملامحَه وجسده الغضّ، فيجد أسفل ظهره شامة صغيرة زرقاء. تبدو في ضوء الصباح الساطع، كما ذلك الرسم الذي خطّه له «المُسلاتي المريب» على الأرض: «خاتم النبي سليمان» (ص 363).
تبدو هذه النهاية التي تنتمي إلى الواقعية السحرية متلائمة مع عوالم الرواية التي تتناول مجتمعاً متعدد العرقيات والإثنيات كالسودان. وهو مجتمع يتسرب الخيال والغرائبية والفانتازيا في كل شأن من شؤون حياته، وتغذيه طبيعة المكان ووعي الشخصيات المرتبط بالميثولوجيا الشعبية والقائم عليها.
تتجلى هذه الغرائبية، أيضاً، في ما تنتهي له حياة الشخصيات التي عاشت في «الحلّة»، ف»الصافية» تسعى للدراسة في الجامعة لتتخرج محاميةً، و»العازة» تخرج من السجن بواسطةٍ وفّرها لها «ود أمونة»، فيما يصبح «ود أمونة» وزيراً اتحادياً باسم كمال الدين اليماني، أما «مختار علي» فيذهب إلى شجرة الموت!
ولعل حالة التهميش التي يعيشها «الجنقو»، هي ما تجعلهم يقلّدون الأشياء المحيطة بهم، بحيث تَبرز هذه الموجودات إلى الواجهة بينما يختفون خلفها؛ فهم في هيئاتهم ولباسهم وطريقة عيشهم يتشبهون بالأدوات التي يتماسّون معها في عملهم اليومي، إذ يلفّون أحزمة الجلد الصناعي على خصورهم ليبدوا مثل «كُلّيقة السمسم» المحزومة جيداً. بينما تتغير أسماؤهم وتتبدل على مدار العام تبعاً لطبيعة العمل التي يقومون به: ف»الجنقوجوراي» يُسمّى «كاتاكو» في الفترة ما بين ديسمبر إلى مارس، حيث يعمل في مزارع السكّر، ويُسمّى «فَحامي» في الفترة ما بين إبريل ومايو، حيث يعمل في تنظيف المشروعات الجديدة أو المهمَلة من الأشجار، ويصنع الفحمَ النباتي من سوقها وفروعها.
منذ مستهل الرواية يبدو الحديث لا عن طبقة بشرية تمارس وجودها الإنساني الطبيعي، وإنما عن «مخلوقات» غرائبية هلامية الوجود مهمّشة محتقَرة ومتروكة من دون أدنى اهتمام. إنه مجتمع كامل يبدو في إيقاع حياته الجماعية فرداً واحداً.
تنهض الرواية عبر ساردٍ بضمير الأنا، يبدو على تواصل مع عالَم «الجنقو» (بحكم أن أفراد عائلته كان معظمهم من هذه الطبقة)، وهو عالَم مصبوغ، لشدة واقعيته، بالفانتازيا والغرائبية، ومزدحم بالخرافات والأساطير والحكايا التي لا تنتهي. تدور الأحداث في ولاية القضارف القائمة على الحدود الأثيوبية السودانية، حيث يعيش «الجنقو» في منطقة تسمّى «الحلّة»، يواجهون واقعهم المرّ بما يستلّونه من مباهج صغيرة تُبقي على جذوة الأمل فيهم ليواصلوا مشوار الحياة، وتتمثل هذه المباهج بطقوسهم المرتبطة بالأرض والمرأة ومواسم الحصاد والمناسبات الاجتماعية كالزواج والختان والطهور، التي يتوقف عندها الروائي بكثير من التفاصيل التي تفتح ذهن المتلقي على عالم ثريّ وغني ومتنوع قد يسمع عنه أو يتعرّف عليه للمرة الأولى:
«عندما يكون السمسم جيداً فتياً مرصوصاً كالدُّرَر على ساق حمراء شامخة، يُجْبر الجنقوجوراي على الانحناء لحصاده، حينها يصبح الحصاد مهرجاناً من الرقص، يغنّي الجنقو لحناً واحداً ثرياً حلواً على إيقاع ضربات المنجل، خشخشة ربط الكُلّيقة ورميها بالخلف» (ص 79). وفي سهراتهم يمرحون ويهتفون بصوت واحد: «نحن الجنقو مسامير الأرض» ومن هذه العبارة الشهيرة لديهم جاء اسم الرواية.
يختار الكاتب لبناء مداميك روايته التي مُنعت من التداول في السودان رغم فوزها بجائزة الروائي الراحل الطيب صالح سنة 2010، بناءً مركباً متشابكاً، إذ تكشف البنية السطحية للرواية عن معاناة الطبقة العمالية ومجابهتها لواقعها، بينما يلجأ الكاتب في البنية العميقة إلى بناء متشظًّ يتواءم مع ثيمة التفكك القارّة في مجتمعات محلية لا تعرف مساراً واضحاً لحياتها التي تقضيها على «الحدود»، وتعاني من تقلبات وتبدلات لا تنتهي، منها ما يرتبط بالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ومنها ما يرتبط بمواسم المطر والزراعة والحصاد، وبالتالي فهي تجمعات غير مستقرّة على الإطلاق، وتعيش متواليات من التحولات الحياتية التي تقودها في النهاية إلى ما يسمّى «شجرة الموت»، وهي شجرة كبيرة في منطقة «الحُمرة» يذهب «الجنقوجوراي» عندما يهرم أو يمرض إليها بمفرده، أو تقوده صاحبة البيت إليها، ويظل تحتها، يقتات على ما يقدمه له الآخرون من طعام، حتى يموت!
وبالنظر إلى مجتمع «الجنقو»، فإن كلاًّ من شخصيات الرواية شهدت سلسلة من التقلبات التي قادتها في النهاية إلى مستقرّها «الحلّة»؛ ذلك المكان الذي يجمع سيلاً بشرياً من منابع مختلفة، لكلٍّ منهم قصته ومعاناته وأحلامه ومباهجه التي كانت فرديةً قبل مجيئه إلى هذا المكان، ثم أصبحت جماعية، لذا فإن الرواية تؤكد أن من يعيش في هذا المكان لا يمكنه مغادرته؛ إنه مكان شبيه بالأماكن الأسطورية التي تُغري القادم إليها بالدخول، ليجد بعد ذلك أنه في متاهة قدرية لا يعرف فكاكاً منها:
«أيّ جنقوجوراي يأتي إلى هنا للعمل موسماً واحداً فقط، ويقول لنفسه إنه بعد هذا الموسم سوف يعود لأهله، يُبْسط أمه وأخوته ويتزوج، فيعمل موسمه الأول»، لكنه يُبذر نقوده في «المريسة» والشرب، «إلى أن يبلغ من العمر عتياً، فيمرض ويموت» (ص 92).
ف «ود أمونة» الذي يبدأ الساردُ وصديقه رحلتَهما في «الحلّة» معه، يعيش طفولته في سجن «القضارف» مع أمه التي تبذل جهدها في حمايته من مجتمع السجن، لكنها وبعد أن يتعرض لمحاولة اغتصاب من قِبَل طباخ السجن، تقتنع بأن تودعه عند «عازة»، وهي سجينة أخرى انتهت محكوميتها، ليعيش معها، لكن «عازة» تعود إلى السجن بعد أن ترتكب جريمة دفاعاً عن «وَدّ أمونة» الذي يؤويه بعد ذلك بيتُ «الأم أدي» في «الحلّة». أما أمه فيحيط الغموض بقصتها، إذ تردد هي أنها هربت مع أسرتها من أقاصي الغرب، بينما يؤكد الرواة أنها هربت بمفردها ولحقتها أخَواتها.
جميع الأحداث في الرواية تبدو موضعاً للشك، ولا حقيقة فيها أو معلومة يمكن الركون إليها، حتى «ود أمونه» الذي تقنعه أمه أن والده يَمَنّيٌّ تركهما وعاد إلى بلاده، يكتشف من آخرين زيفَ هذا الادعاء، وأنه غير معروف الأب. أما طباخ السجن الذي حاول الاعتداء على «ود أمونة» فتتناقل الرواية أنه ما يزال يعمل في السجن، غير أن «ود أمونة» يؤكد في روايته أن الطباخ مات بعد الحادثة بسنة، على إثر لسعة ثعبان ظهرَ له في مخزن البقوليات.
الرواي نفسه الذي قادته إلى «الحلّة» حالةُ الضياع هو ورفيقه بعد أن تمت إحالتهما «للصالح العام قبل خمس سنوات» (ص 9)، يعزز هذه الشكَّ الذي هو سمةٌ لصيقة بعالم الرواية المفكَّك، حيث يؤكد بين فينة وأخرى أن ما يرويه من أحداث تَحَصَّل عليها من رواة وحكاة عدّة، وأنه يعيد إنتاج هذه الروايات بعد بعض «التدخل، وقليل من التأويل والتحوير والالتفاف والتقويم والإفساد أحياناً» (ص 14). وعندما تحكي «ألم قشي» -الفتاة التي يعشقها الراوي ويتزوج منها- حكايةَ والدة «ود أمونة» من وجهة نظرها، يقول الراوي مشككاً بصدق الرواية: «أخذتْ تحكي لي القصة كما تظن أنها الحقيقة، وقاطعتُها مرات عدة، محاولاً محاصرتها لكشف تناقضٍ قد يبدو لي هنا أو هناك في الحكاية، لكنها مضت في حكيها بثبات وثقة العارف المتأكد، ثقة مَن شافَ، ولو أنها وغيرها لم يروا شيئاً» (ص 100).
وكما للشخصيات حكاياتها، فإن ل»الحلّة» أيضاً حكايتها، فبحسب ما تروي «الصافية» –وهي امرأة «مسترجلة»- فإن جدتها أسست «الحلّة» التي كانت منطقةً تعيش فيها الضباع والقرود والجن، ومكاناً لسجناء «يهربون ب(الفرو) من سجن الحُمرة بأثيوبيا، شياطين يسكنون ويتزاوجون مع البشر، بشر يتحولون إلى حيوانات وغربان» (ص 85). وبحسب رواية أحد العجائز فإن تسعة وتسعين بالمئة من سكانها «ليست لهم أجناس. ليست لهم قبائل، كلهم مولودون، أمهاتهم حبشيات بازاريات، بني عامر، حماسينيات، بلالاويات، أو أي جنس آخر» (ص 139) وكذلك آباؤهم.
وعالَم «الِحلة» بخليطه المكاني والبشري «العجيب»، نموذجٌ مصغَّر لمجتمع يعاني الاضطراب والقهر والتهميش، ويُذكّر بواقع «العشوائيات» والمجتمعات الهامشية التي تنمو هنا وهناك طلباً للعيش وبحثاً عن أبسط مقومات الحياة؛ وهي مجتمعات موسومة على الأغلب، بحكم تكوينها، بالتحلل الأخلاقي والتفسخ والارتباك.
تشهد «الحلّة» حالةً من التحول الاقتصادي، حين يستورد البنكُ حاصداتٍ آليةً حديثة، تقوم بالعمل الذي يؤديه «الجنقو» من دون الحاجة إلى أيدٍ عاملة، ثلاثة يقودونها وعامل يؤدي أعمال العتالة، وقد جاءت هذه الماكينات في وقت ينتظره «الجنقو» طويلاً، وهو موسم حصاد السمسم: «افتُتح البنك في وقتٍ حُسب بدقة ليواكب الموسم الزراعي لهذا العام. وجاء الموظفون ونزلوا في ضيافة شركة الاتصالات» (ص 202).
إن التحول الذي يُحْدثه البنك في «الحلّة» يطال المكان وساكنيه، ويربك العالَمَ الصغير الذي بُني بعَرَق العمال وتعبهم ليسلبهم لقمةَ عيشهم وأبسطَ مباهجهم، كما يتوغل على أراضي القبائل الرعوية من خلال رشوة زعاماتهم أو تجاوزهم، وتُختتم الأحداث في الرواية بالحريق الهائل الذي يمحي «الحلّة» عن وجه الأرض، ويحرق بعض السكان، فيما يلجأ بعضهم الآخر، ومنهم الراوي الزوج الثاني ل»ألم قشي»، إلى الحدود الأثيوبية، أما «ألم قشي» فتهرب إلى أهل زوجها الأول وتعود إلى طفلتيها اللتين أنجبتهما منه.
وإذ ذاك، تندلع شرارة التمرد على ممارسات البنك التي زادت غنى الأثرياء على حساب الفقراء، لتأتي بعدها الثورة التي قادها «الجنقو» ضد البنك بعد أن رفض التعامل معهم: «كان واضحاً أن ثمة أمراً قد تم ترتيبه وأن اتفاقاً ما قد وقَعَ بين العاملين، كانت وجوههم السوداء والبنية الغبشاء، التي يبدو عليها ما تبقى من ليلة أمس واضحاً جلياً، تلك الوجوه المرحة المتسامحة غير المبالية، تبدو اليوم أكثر خطورة وجدية» (ص 102).
لقد تغوّل البنك على حياة هؤلاء الذين كانوا يعرفون كيف يديرون أمورهم ويلبّون متطلبات عيشهم بأدواتهم البسيطة وأموالهم القليلة، لكن استجلاب البنك لآلاته الزراعية العملاقة وشركة الاتصالات والوافدين المتعلمين من المدن أضرت بمجتمع «الجنقو» الذين وجدوا أنفسهم مطالَبين بالتأقلم مع نمط جديد ومعقّد من السلوك، وبدلاً من أن تُحسّن هذه التغيرات واقعهم، صارت وسيلةً من التهميش والظلم والإفقار.
البطولة في الرواية تتقاسمها الشخصياتُ، والأحداث، والأمكنة على السواء. ويؤدي الراوي؛ الزوج الثاني ل»ألم قشي» -المرأة التي يقع في حبها وينجب منها- دورُ الناقل للأحداث بضمير الأنا، ورغم أن هذا الضمير السردي يبدو محدوداً في رؤيته بحكم أنها في النهاية رؤية ذاتية، إلا أن الكاتب نجح في توسيع مدار هذا الراوي، الذي لم يحتكر السرد مطلقاً، بل ترك للشخصيات فرصة لأن تحكي قصتها كلٍّ من وجهة نظرها الخاصة، ما أسهمَ في تعدد وجوه الحكاية الواحدة وتشعّبها في غير مسار.
هذه التقنية؛ الحكي، هي الأسلوب الأمثل للتعبير عن واقع مجتمع «الجنقو»، إذ إنهم يقضون نهارهم بالعمل الجماعي، ويتحلّقون للسمر في المساء، ويجدون في سرد الحكايا ما يؤنسهم ويسرّي عنهم، ونظراً لإدراكهم العميق بأنهم جماعات مهمّشة لا تملك السلطة أو المال، يحاولون الاستعاضة عن ذلك بأن يجعل كلُّ واحد منهم من نفسه بطلاً؛ وحده من يمتلك حقيقة الحكاية التي تتجلى في ما بعد بوجوهٍ عدة تختلف باختلاف وجه نظر الحكّاء أو الحكّاءة.
واستيفاءً لمتطلبات تقنية «الحكي» تلك، قامت الرواية على مستويَين من اللغة؛ لغة السرد المنتقاة والقادرة على تحليل العلاقات والأحداث وما يمور تحت السطح، ولغة الحوار الدارجة أو المحكية التي تعبّر عن واقع مجتمع «الجنقو» الزراعي الذي تتحكم فيه الخرافة والأساطير، كما تعبّر -من خلال تفاوت اللهجات- عن ذلك الخليط البشري القادم من كل مكان ليعيش في «الحلّة». نجد مثال ذلك شخصية تقول في حوارها: «أنت ماك راجل؟»، بينما تقول أخرى التعبير نفسه بشكل مختلف: «أنت ما راجل؟»، وتردده ثالثة بشكل يختلف عن السابقَين: «أنت مش راجل؟».
تُختتم الرواية بمحاولة الراوي الالتقاء بزوجته «ألم قشي» التي تشارف على إنجاب طفله، غير أنه لا يتمكن من عبور الحدود الأثيوبية باتجاه «همدائييت» حيث تقيم. وفي خضم بحثه المحموم عن وسيلة ليلتقي بها، يتعرف على «إسحق المُسلاتي» الذي يؤكد له أن «ألم قشي» جنّية، وأن من يعاشرها من البشر لا يمكنه أن يرغب في امرأة أخرى، وأنه رأى «ختم الجن» على شكل خاتم سليمان في أسفل ظَهرها.
يُعْرِض الراوي الذي خَبرَ «الجنقو» وما يتداولونه من أساطير، عن المُسلاتي غيرَ مصدّق لما أخبره به، ويلجأ للجمعية الدولية للصليب الأحمر من أجل مساعدته للالتقاء بزوجته وطفله، ويكون له ذلك، وعندما يلتقي ب»ألم قشي» يحمل طفلَه المسمّى «محمد» ويتأمّل ملامحَه وجسده الغضّ، فيجد أسفل ظهره شامة صغيرة زرقاء. تبدو في ضوء الصباح الساطع، كما ذلك الرسم الذي خطّه له «المُسلاتي المريب» على الأرض: «خاتم النبي سليمان» (ص 363).
تبدو هذه النهاية التي تنتمي إلى الواقعية السحرية متلائمة مع عوالم الرواية التي تتناول مجتمعاً متعدد العرقيات والإثنيات كالسودان. وهو مجتمع يتسرب الخيال والغرائبية والفانتازيا في كل شأن من شؤون حياته، وتغذيه طبيعة المكان ووعي الشخصيات المرتبط بالميثولوجيا الشعبية والقائم عليها.
تتجلى هذه الغرائبية، أيضاً، في ما تنتهي له حياة الشخصيات التي عاشت في «الحلّة»، ف»الصافية» تسعى للدراسة في الجامعة لتتخرج محاميةً، و»العازة» تخرج من السجن بواسطةٍ وفّرها لها «ود أمونة»، فيما يصبح «ود أمونة» وزيراً اتحادياً باسم كمال الدين اليماني، أما «مختار علي» فيذهب إلى شجرة الموت!
إرسال تعليق